لم يكن الأمر غريباً، كان الحزن حزننا، وتلقينا العزاء فى الراحل الكبير، شأننا شأن الأشقاء فى المملكة. لن نعدد المواقف، ولن نتحدث عن ثوابت الرجل، فالكل يعرف ماذا قدم الملك عبدالله بن عبدالعزيز لمصر وللأمة.
كانت وقفته حاسمة، وكلماته واضحة ومحددة، منذ اليوم الأول لثورة الثلاثين من يونيو، غامر بعلاقة المملكة مع الولايات المتحدة، بعث بوزير خارجيته سعود الفيصل إلى باريس بعد فض اعتصام رابعة ليفرمل العقوبات والإجراءات التى كان يعتزم الاتحاد الأوروبى اتخاذها.
يومها صدر بيان عن الخارجية السعودية كان هو الأقوى، ربما فى تاريخ الدبلوماسية السعودية وعلاقاتها بالولايات المتحدة ودول الغرب، كان «أبومتعب»، الملك عبدالله، قد أعطى تعليماته بالوقوف مع مصر حتى آخر مدى.
كان يتحرك وكأنه مسئول عن مصر وأمنها واستقرارها، ظل يدافع عن حق المصريين، ورفض التدخل فى شئونهم حتى فى مواجهة دولة عضو فى مجلس التعاون الخليجى، هى قطر، وكان وراء قرار سحب السفراء الخليجيين منها، بعد أن تخلت عن الالتزام بتنفيذ ما تعهدت به فى اتفاق الرياض الموقّع بين خادم الحرمين الشريفين وأمير الكويت وأمير قطر فى الثالث والعشرين من نوفمبر 2013.
رحل الملك عبدالله عن عالمنا، ولم يبقَ سوى إنجازاته وذكريات أبناء شعبه وأمته عن نبله وأصالته وعروبته.. وهكذا كان رحيله استفتاء على احترام العالم بأسره لرجل لم يكن يعرف فى حياته سوى لغة واحدة هى لغة الصراحة والصدق والوضوح.
كان البعض يتخوف من مرحلة ما بعد الرحيل، هناك متغيرات، وواقع جديد، وتحديات بالقرب من الحدود، ومؤامرات لضرب المملكة من الداخل وتفتيتها، وإشعال النيران على أرضها. ألم يقل «جيمس وولس»، مدير المخابرات المركزية الأمريكية الأسبق: «العراق هدف تكتيكى والسعودية هدف استراتيجى ومصر هى الجائزة الكبرى»؟!
غير أن هؤلاء لا يدركون ولا يعرفون حقائق الوضع فى المملكة وآليات الاختيار بين أبناء وأحفاد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن رحمة الله عليه. لقد تم انتقال الحكم بسلاسة طبيعية، فتح الباب للجيل الثانى من أسرة آل سعود، فكان الأمير محمد بن نايف هو الذى جرى اختياره «ولياً لولى العهد» الأمير مقرن بن عبدالعزيز.
وكان الشعب السعودى عند مستوى المسئولية، إنه يدرك التحديات المفروضة على المملكة، والمؤامرات التى تحاك ضدها من الجنوب والشمال، من الداخل ومن الخارج، ولذا كان وعى الشعب وثقته فى الملك الجديد خلف هذا المرور الآمن لواحدة من أخطر الفترات التاريخية التى مرت بها المملكة.
لقد أكد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز فى خطابه الأول للشعب أن ثوابت وركائز السياسة السعودية متواصلة، منذ زمن الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وهو أمر ليس بجديد، فسياسة الملوك السابقين كانت لها محدداتها وقواسمها المشتركة.
لقد راح البعض من المحللين يرددون كلاماً حول تغير ما قد يحدث باتجاه العلاقة المصرية السعودية، ولا أدرى على أى أساس يتحدث هؤلاء؟ إنهم يحاولون النفاذ لفتح الطريق أمام التشكيك فى كل شىء، إن أحداً لا يستطيع أن يشكك أو يزايد على مواقف الملك الجديد تجاه مصر.
لقد أصر على الحضور بنفسه حفل تنصيب الرئيس عبدالفتاح السيسى، وكانت كلماته عن مصر تعبيراً عن وعى بطبيعة العلاقة، وإدراك لأهميتها، وإصرار على استمراريتها بقوة الدفع التى تجعل من هذه العلاقة نموذجاً يُحتذى.
إن الملك سلمان بن عبدالعزيز يواجه بالتأكيد متغيرات مهمة وخطيرة فى الوقت الراهن، أبرزها الأوضاع فى اليمن وسيطرة الحوثيين، بدعم مباشر من إيران، على السلطة فى البلاد، وهو أمر من شأنه أن يثير القلاقل فى منطقة الحدود، ومن ثم فإن السعودية سيكون عليها مواجهة هذا الملف بكل حسم وقوة إذا ما سعى هؤلاء إلى نقل الفوضى إلى داخل حدود المملكة.
وهناك أيضاً الأوضاع المقلقة على الحدود الشمالية مع العراق، وأعتقد أن حادث منطقة «عرعر» الأخير، الذى أدى إلى استشهاد قائد الحرس الوطنى فى المنطقة الشمالية من خلال عملية إرهابية عبر الحدود، لهو أمر يدفع أيضاً إلى وضع هذه القضية موضع الاعتبار، ذلك أن تنظيم «داعش» الإرهابى لا يكف عن التهديد بارتكاب جرائم إرهابية داخل أراضى المملكة، مما يدفع إلى القول إن قضية العراق وما يجرى على أرضها سوف تكون أيضاً من أهم الملفات التى ستواجه الملك الجديد.
أما الموقف من نظام الحكم فى سوريا فهو أيضاً سيكون واحداً من أهم الملفات المطروحة على جدول أعمال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز. إن الأحداث التى شهدتها سوريا وتمدُّد التنظيمات الإرهابية على أراضيها (داعش، النصرة، أحرار الشام.. وغيرها) حتماً ستدفع القيادة السعودية إلى النظر للأمر برؤية جديدة تؤكد أولوية الحل السياسى بما يضمن وحدة الشعب والأرض السورية.
ويتوقع المحللون فى ذلك أن يقدم الملك الجديد على إجراءات من شأنها الدفع باتجاه تفعيل مقررات مؤتمر جنيف، ودعم الحوار بين أهل الحكم وفصائل المعارضة السياسية بما يحقق صيغة تضمن لسوريا الخروج من النفق المظلم الذى تعيشه البلاد فى الوقت الراهن.
وصحيح أن هناك من يرى أن للملك سلمان موقفه المتشدد من إيران بسبب سياساتها وسعيها للتدخل فى الشئون الداخلية لدول الخليج، إلا أن خادم الحرمين الشريفين، من واقع خبرته السياسية وفهمه لطبيعة العلاقات والمصالح، سوف يسعى بالتأكيد إلى وضع قواعد وثوابت تحكم هذه العلاقة بين البلدين، بما يضمن عدم التدخل فى الشئون الداخلية ورفض تصدير «الثورة الإيرانية» إلى بلدان الوطن العربى.
من المؤكد أن الملك سلمان بن عبدالعزيز لن يسعى إلى محاولة الصدام مع أى من الأطراف المجاورة، فهذا ضد ثوابت السياسة الخارجية السعودية، غير أنه لن يسمح أيضاً بأى تجاوزات تسبب مشاكل داخلية وأمنية تهدد استقرار المملكة. إن اختيار الأمير محمد بن نايف، ولى ولى العهد ووزير الداخلية، ليمسك بهذه الملفات المهمة فى هذا الوقت، بما اكتسب من سمعة إقليمية ودولية فى محاربة الإرهاب، يؤكد أن يد المملكة ستظل قوية على أعدائها، وأن قرار خادم الحرمين الشريفين المغفور له الملك عبدالله بن عبدالعزيز باعتبار جماعة الإخوان جماعة «إرهابية»، جنباً إلى جنب مع عدد من التنظيمات الأصولية الأخرى، سوف يبقى سارياً، بل وسيمتد أيضاً إلى حماية الأمن الخليجى بأسره من مخاطر تمدُّد الإرهاب فى المنطقة.
أما الموقف من السياسة الخارجية الأمريكية، فهنا ووفقاً للمعلومات، فالموقف السعودى تجاهها فى ظل الملك الجديد سيكون محكوماً بعدد من الاعتبارات أبرزها:
- رفض السياسة الأمريكية الداعمة لجماعة الإخوان ومخططاتها فى المنطقة.
- رفض التدخل فى الشئون الداخلية للمملكة بأى شكل من الأشكال، وتحت أى صيغة من الصيغ، بما فى ذلك الحديث عما يسمى «الديمقراطية وحقوق الإنسان» وفق النهج الغربى، ومن يعرفون مواقف الملك الجديد يعرفون أنه لن يتسامح مع أى محاولة لإثارة القلاقل فى المملكة تحت أى صيغة أو اعتبار.
- الموقف الأمريكى من القضية الفلسطينية والأوضاع الراهنة فى المنطقة، فالسعودية ظلت داعماً رئيسياً للشعب الفلسطينى وقضيته العادلة، ومن هنا فإنها ستقيم الموقف الأمريكى وفقاً لمصالح الأمة والشعب الفلسطينى وحتماً سيكون هذا الموقف واحداً من المعايير التى ترتكز عليها العلاقات السعودية الأمريكية، سلباً أو إيجاباً. صحيح أننا نعرف أن هناك ركائز وثوابت وقواسم مشتركة تحكم العلاقة بين الطرفين، وأن ملوك المملكة الستة السابقين وضعوا هذه العلاقة فى إطارها الاستراتيجى دون السعى إلى الصدام المباشر، إلا أن المتغير الذى شهدته هذه العلاقة على خلفية الموقف الأمريكى من مصر، مثّل نظرة جديدة لمسار العلاقة تعيدنا بالضبط إلى زمن الملك «فيصل» رحمة الله عليه، عندما اتخذ موقفه القوى بوقف إمداد السعودية ودول الخليج لأمريكا بالنفط فى حرب أكتوبر 1973.
وكان اللقاء الذى جرى بين الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمة الله عليه وبين الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى 29 مارس من العام الماضى نموذجاً لهذا التغير، حيث واجه الملك عبدالله نظيره الأمريكى بلغة حادة أعلن فيها رفضه موقف أمريكا التحريضى ضد مصر ودعمها لإرهاب جماعة الإخوان، وتساءل الملك يومها عن المعايير المزدوجة التى تتعامل بها واشنطن مع واحد من أخطر التحديات التى تواجه الأمة العربية، بل والعالم بأسره.
إن كل هذه الملفات وغيرها ستواجه الملك سلمان بن عبدالعزيز على صعيد السياسة الخارجية للمملكة، ناهيك عن الموقف من حكومة قطر وإصرارها على خرق الاتفاقات الموقّعة معها فى وقت سابق، خاصة ما يتعلق منها بالموقف من جماعة الإخوان والتحريض ضد مصر.
إن الأيام المقبلة ستكون مهمة، ليس فقط فى مسيرة الحكم السعودى وآليات تعامله مع الأزمات الراهنة عربياً وإقليمياً، ولكن أيضاً بمدى قدرة المملكة على الاستمرار فى لعب دور محورى على صعيد إطفاء الحرائق المشتعلة فى المنطقة واستباحة الأمن القومى العربى من قوى داخلية وخارجية. إن الخيار الوحيد فى ذلك هو لملمة الشمل العربى، واتخاذ الخطوات التى من شأنها وقف التداعيات الراهنة على الساحة العربية فى ليبيا وسوريا واليمن والعراق تحديداً، وفى كل ذلك فإن جناحَى الأمة فى مصر والمملكة سيكون عليهما الدور الأكبر فى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولا خيار غير ذلك.