فى هذه اللحظة تعرفت على شقيق الروح جمال الغيطانى الذى كان يعمل محرراً عسكرياً لمؤسسة الأخبار.لا مفر من العودة إلى السنوات التى جُنِّدتُ فيها فى قواتنا المسلحة البطلة والشجاعة والباسلة. كان ذلك من 1965 حتى 1974، تسع سنوات من أهم الفترات التى أثرت وقتها وفيما بعد وربما حتى الآن فى تكوينى الثقافى ورؤيتى الأدبية لما يجرى فى مصر.
ولولا هذه السنوات العظيمة والعميقة والبنَّاءة والجوهرية ما كنتُ قد استطعت أن أكتُب ما كتبت. خاصة من رواياتى وقصصى القصيرة وقصصى الطويلة التى تدور حول الصراع مع العدو الإسرائيىلى. خصوصاً روايتى: الحرب فى بر مصر، التى حولَّها المخرج الكبير صلاح أبوسيف إلى فيلم: المواطن مصرى، وقصتى القصيرة الطويلة: فى الأسبوع سبعة أيام.ومنذُ قديم الزمان كان يُقال إن الحرب تجربة شديدة الخصوصية. لا يمكن الكتابة عنها إلا لمن عاشها. ومر بها إنسانياً ووطنياً وعسكرياً.
ليس معنى هذا أننى عندما كنتُ أمرُ بالتجربة، وفى ذلك الوقت البعيد أبحث عما يمكن كتابته. فالكتابة لا تُعطى نفسها إلا لمن يتهيأ لها.
ويُعد نفسه إنسانياً ووطنياً لكى يُلامس شغاف قلبها، وعُمق روحها.كنتُ مُجنداً فى سلاح الخدمات الطبية. وبالتحديد فى المستشفى العسكرى العام فى غمرة. وهى وحدة عسكرية. قبل الحرب كان مستشفى لعائلات العسكريين وأبنائهم وأسرهم. ولكنها فور نشوب القتال مع العدو الإسرائيلى أصبح مستشفى ميدانياً مُتقدماً.
كانوا يُحضِرون لنا الجرحى من الخطوط الأمامية الذين يتعذر علاجهم فى المستشفيات التى أُقيمت هُناك. وكُنا نقوم بعلاجهم.صحيح أننى لم أكن أقوم بعمل تمريضى أو طبى.
فقد كنتُ أقوم بعمل إدارى فى إدارة السجلات والشئون العسكرية، وبعد ذلك لاحقاً فى الشئون المعنوية، تلك الإدارة الساهرة على حب الوطن والاستعداد للدفاع عنه، والتضحية فى سبيله حتى بالحياة نفسها.
ولأن وحدتى فى قلب القاهرة. فقد كنتُ أحصُل على تصاريح خروج مؤقتة، وألتقى بالمثقفين المصريين فى ذلك الوقت.
وأيضاً المثقفين من الأشقاء العرب الذين كانوا يأتون إلى مصر كتعبير عن الوقوف معها والدفاع عنها ومساندتها حتى تسترد لنا الأرض والعرض والكرامة.وفى هذه الفترة تعرفت على رفيق الدرب وصديق العُمر وحبيب الروح جمال الغيطانى.
الذى كان يعمل محرراً عسكرياً لمؤسسة أخبار اليوم فى الجبهة. وكانت زيارتى له فى بيته فى الجمالية أولاً، ثم مدينة نصر ثانياً تتحول إلى أهازيج وأغان فى حب الوطن، والرغبة فى الدفاع عنه، وتقديم أغلى ما عند الإنسان فداء له.خصوصاً أن شقيقه الأصغر هو الآن اللواء إسماعيل الغيطانى، ضابط مُهندس على المعاش بعد أن قدم لمصر أجمل ما يُمكن أن يقدمه الإنسان لوطنه دفاعاً عنه.
لدرجة أن جلساتنا فى بيته نحن الثلاثة كانت تتحول إلى أغنيات فى حب الوطن وحكايات الرغبة فى الدفاع عنه، وتقديم أغلى ما عند الإنسان دفاعاً عن كيانه.وجمال الغيطانى هو صاحب أعمال أدبية، يكفى أن نتوقف أمام عناوينها: أرض أرض، حكايات الغريب، ذكر ما جرى، نفثة مصدور، صدف النار.
ومن هذه الأعمال تحولت حكايات الغريب إلى فيلم سينمائى حقق نجاحات غير عادية عند عرضه.
فقد كان عن بطولات مدينة السويس فى مواجهة الغُزاة والمُحتلين.وبعد ذلك بسنوات عندما سافرت إلى السويس قال لى زميلى فى البرلمان عن دائرة السويس -وقتها- عبدالحميد كمال، وقالت لى الروائية المصرية المرموقة السويسية أمينة زيدان إن الدور الذى قامت به السويس فى هذه الحرب ضد العدو الإسرائيلى يجب أن يُدوَّن من خلال عمل تسجيلى يروى ما جرى وما كان من الشعب المصرى العظيم فى مدينة السويس التى كانت تُعد فى ذلك الوقت من مدن المواجهة الأولى مع العدو الإسرائيلى.
عندما أصبح المستشفى أحد المستشفيات العسكرية المتقدمة، وتأتى إلينا حالات حرجة من الخطوط الأمامية حتى بدوت أمام نفسى وكأننى أعيش تجربة الحرب لحظة بلحظة.
ورغم أننى كنتُ أجلس على المقهى عندما أخرج فى إجازات لمدة سويعات مع نجيب محفوظ. إلا أننى فوجئت به ذات يوم وبعض زملائى الذين يخدمون على بوابة دخول المدنيين بأنه جاء إلى المستشفى.
صعدتُ إليه فوراً ورحَّبت به بلا حدود. فقد كان إنساناً ودوداً، بسيطاً وجميلاً. يُعتبر المؤسس الجوهرى للرواية العربية المُعاصرة وليس الدكتور محمد حسين هيكل كما يحب أن يذهب بعض النُقَّاد.كان نجيب محفوظ قد أتى لزيارة مقاتل قريب لهم أصيب فى الجبهة وتم نقله إلى مستشفى غمرة العسكرى.
ولم يشأ نجيب محفوظ أن يُخبرنى حتى لا أنشغل عن الاهتمامات التى يجب أن أعتبرُها قضية عمرى الأساسية. بل ربما كانت قضية كل المصريين جميعاً.
أعترف أننا نعيش -هنا والآن- فى الطريق إلى الأيام التى سنحتفل فيها فى أكتوبر القادم بمرور نصف قرن على هذه الحرب العظيمة التى أعادت للعرب كرامتهم، وربطت الحاضر بالماضى بالنسبة للمصريين جميعاً، وأعطت الأشقاء الفلسطينيين الأمل فى قيام دولتهم المستقلة الذى لم يتحقق حتى الآن.
وإن كنتُ أتمنى أن يتم وأن أراه بعينى وأسمعه بأذنى.كانت الحرب نقوم بها فى مصر التى كُنا نقول عنها الجبهة الجنوبية، وكان أشقاؤنا فى سوريا يحاربون نفس العدو فيما أطلقنا عليه الجبهة الشمالية.
وكان الأشقاء العرب من المحيط إلى الخليج معنا قلباً وروحاً ووجداناً وإمكانات. تقف الإمكانات النفسية على رأس كل ما كان مُتاحاً لنا فى ذلك الوقت من إمكانات.