ربما يبدو مصطلح «الاقتصاد الإبداعي» غريباً على أذهان الكثيرين من الناطقين بلغة الضاد. والواقع أن هذا المصطلح تعود نشأته إلى بداية الألفية الثالثة، وتحديداً في العام 2001م، حيث يرجع الفضل في ظهور هذا المصطلح إلى الكاتب البريطاني «جون هوكنز»، والذي قام بالترويج لمفهوم «الاقتصاد الإبداعي» (Creative Economy)، محدداً له خمسة عشر نشاطاً، تشمل مجالات متنوعة، تبدأ بالفنون، وتمتد لتشمل مجالات العلم والتكنولوجيا.
وبعد حوالي ثلاث سنوات على ظهوره، ومنذ العام 2004م، بدأت منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في العمل بشكل جدي على صياغة مفهوم عالمي للاقتصاد الإبداعي، من أجل رؤية هادفة إلى تعزيز التنمية من خلال الإبداع. وفي تقريرها الصادر عام 2008م حول تقييم الاقتصاد الإبداعي على مستوى العالم، أشارت الأونكتاد إلى أن الاقتصاد الإبداعي هو ذلك النمط من النشاط الاقتصادي الذي يقوم على استغلال الأصول الإبداعية التي يمكن أن تولد النمو الاقتصادي، وتقود إلى التنمية الاقتصادية. كما أوردت الأونكتاد تعريفاً للصناعات الإبداعية بأنها تلك السلع والخدمات التي تستخدم الإبداع ورأس المال الفكري كمدخلات أولية، والتي تشمل أربع مجموعات رئيسية، وهي: التراث، والفنون، ووسائل الإعلام، والإبداعات الوظيفية، وكل مجموعة رئيسية منها تشتمل على عدة مجموعات فرعية. فالمجموعة الرئيسية الأولى، وهي التراث، وتضم مجموعتين فرعيتين، هما أشكال التعبير الثقافي التقليدي (الفنون، الحرف اليدوية، المهرجانات، والاحتفالات) والمواقع الثقافية (المواقع الأثرية، المتاحف، المكتبات والمعارض). أما المجموعة الرئيسية الثانية، فهي الفنون، وتشمل مجموعة الصناعات الإبداعية القائمة على الفن والثقافة. وهذه المجموعة تنقسم بدورها إلى الفنون البصرية (الرسم، النحت، التصوير الفوتوغرافي، والتحف) والفنون المسرحية (الموسيقى، المسرح، الأوبرا، والسيرك). أما المجموعة الرئيسية الثالثة، فتتعلق بوسائل الإعلام، وتخرج بالتالي عن نطاق اهتمام وزارة الثقافة وتتعلق بوزارات أو هيئات أخرى. والمجموعة الرئيسية الرابعة والأخيرة هي الإبداعات الوظيفية، وتضم ثلاث مجموعات فرعية، هي التصميم والرسم والأزياء والمجوهرات ولعب الأطفال ووسائل الإعلام الجديدة (البرمجيات، ألعاب الفيديو، والمحتوى الإبداعي الرقمي) والخدمات الإبداعية (الخدمات المعمارية، الإعلان، الخدمات الثقافية والترفيهية، الأبحاث الإبداعية).
وهكذا، يشكل التراث المجموعة الأولى من المجموعات الأربع الرئيسية التي ينطوي عليها مفهوم الاقتصاد الإبداعي. ويندرج تحت هذه المجموعة مجموعتين فرعيتين، هما أشكال التعبير الثقافي التقليدي (الفنون، الحرف اليدوية، المهرجانات، والاحتفالات) والمواقع الثقافية (المواقع الأثرية، المتاحف، المكتبات والمعارض). ويعني ذلك أن مفهوم التراث وفقاً لهذا التصور يضم أيضاً الآثار.
وللوقوف على معنى التراث والعلاقة بينه وبين الآثار، نرى من الملائم الرجوع إلى الاتفاقية الدولية لحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لسنة 1972م. فوفقاً للمادة الأولى منها، «يعني التراث الثقافي لأغراض هذه الاتفاقية:
- الآثار: الأعمال المعمارية، وأعمال النحت والتصوير على المباني، والعناصر أو التكاوين ذات الصفة الأثرية، والنقوش، والكهوف، ومجموعات المعالم التي لها جميعاً قيمة عالمية استثنائية من وجهة نظر التاريخ، أو الفن، أو العلم.
- المجمّعات: مجموعات المباني المنعزلة أو المتصلة، التي لها بسبب عمارتها، أو تناسقها أو اندماجها في منظر طبيعي، قيمة عالمية استثنائية من وجهة نظر التاريخ، أو الفن، أو العلم.
- الموقع: أعمال الإنسان، أو الأعمال المشتركة بين الإنسان والطبيعية، وكذلك المناطق بما فيها المواقع الأثرية، التي لها قيمة عالمية استثنائية من وجهة النظر التاريخية، أو الجمالية، أو الاثنولوجية، أو الانتربولوجية».
والبين من المادة سالفة الذكر أن الاتفاقية تركز في تعريفها للتراث على الجانب المادي منه. أما الجانب غير المادي للتراث، فقد ورد النص عليه في الاتفاقية الدولية بشأن حماية التراث الثقافي غير المادي لسنة 2003م. ووفقاً للمادة الثانية البند الأول منها، ولأغراض هذه الاتفاقية، «يقصد بعبارة (التراث الثقافي غير المادي) الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات – وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية – التي تعتبرها الجماعات والمجموعات وأحياناً الأفراد، جزءاً من تراثهم الثقافي، وهذا التراث الثقافي غير المادي المتوارث جيلاً بعد جيل، تبدعه الجماعات والمجموعات من جديد بصورة مستمرة بما يتفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة وتاريخها، وهو ينمي لديها الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها، ويعزز من ثم احترام التنوع الثقافي والقدرة الإبداعية البشرية، ولا يؤخذ في الحسبان لأغراض هذه الاتفاقية سوى التراث الثقافي غير المادي الذي يتفق مع الصكوك الدولية القائمة المتعلقة بحقوق الإنسان، ومع مقتضيات الاحترام المتبادل بين الجماعات والمجموعات والأفراد والتنمية المستدامة». ويضيف البند الثاني من المادة ذاتها أنه «على ضوء التعريف الوارد في الفقرة (1) أعلاه، يتجلى (التراث الثقافي غير المادي) بصفة خاصة في المجالات التالية:
(أ) التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، بما في ذلك اللغة كواسطة للتعبير عن التراث الثقافي غير المادي؛
(ب) فنون وتقاليد أداء العروض؛
(ﺠ) الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات؛
(د) المعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون؛
(ه) المهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية».
وعلى هذا النحو، فإن الاتفاقيات الدولية تمايز بين نوعين من التراث الثقافي؛ أحدهما مادي، والآخر غير مادي. وكما هو واضح، فإن الآثار تأتي على رأس التراث الثقافي المادي. ويعني ذلك أن لفظ التراث أوسع وأشمل من لفظ الآثار، بحيث تكون الآثار هي أحد أشكال التراث.
ومع ذلك، وبالاطلاع على الدستور المصري الحالي، نجد أن المشرع الدستوري يكرس مادة مستقلة للآثار، بحيث قد يعتقد البعض أن الآثار تختلف تماماً عن التراث، والذي يكرس له المشرع الدستوري مادة أخرى. بل إن المادة الخاصة بالآثار قد جاءت سابقة على المادة المتعلقة بالتراث. فوفقاً للمادة التاسعة والأربعين من الدستور، «تلتزم الدولة بحماية الآثار والحفاظ عليها، ورعاية مناطقها، وصيانتها، وترميمها، واسترداد ما استولى عليه منها، وتنظيم التنقيب عنها والإشراف عليه. ويحظر إهداء أو مبادلة أي شيء منها. والاعتداء عليها والاتجار فيها جريمة لا تسقط بالتقادم». أما المادة الخمسين من الدستور، فتنص على أن «تراث مصر الحضاري والثقافي، المادي والمعنوي، بجميع تنوعاته ومراحله الكبرى، المصرية القديمة، والقبطية، والإسلامية، ثروة قومية وإنسانية، تلتزم الدولة بالحفاظ عليه وصيانته، وكذا الرصيد الثقافي المعاصر المعماري والادبي والفني بمختلف تنوعاته، والاعتداء على أي من ذلك جريمة يعاقب عليها القانون. وتولي الدولة اهتماماً خاصاً بالحفاظ على مكونات التعددية الثقافية في مصر».
وعلى كل حال، وسواء نظرنا للآثار على استقلال عن التراث، أو نظرنا إليها باعتبارها مندرجة ضمن التراث، فإن المشرع الدستوري المصري يلزم أجهزة الدولة بالحفاظ على التراث وحماية الآثار. ونعتقد أن النظرة الحديثة للآثار والتراث إنما تنطلق من اعتبارهما جزءاً من الاقتصاد الإبداعي، بما يلزم معه وضع استراتيجية وطنية لتعظيم الاستفادة منهما في تعزيز الاقتصاد الوطني. فالأمر لا يقتصر إذن على حماية التراث والحفاظ عليه، وإنما يمتد إلى تعظيم العائد الاقتصادي له، منظوراً له باعتباره عنصراً فاعلاً في الاقتصاد الإبداعي. ومنظوراً إلى الأمور على هذا النحو، فإن مهمة وضع هذه الاستراتيجية ينبغي أن تضطلع بها الوزارات المعنية بشؤون الاستثمار والاقتصاد والآثار والثقافة. فلا يجوز أن تعهد هذه المهمة إلى وزارة الثقافة أو الوزارة المعنية بالآثار وحدهما. والله من وراء القصد...