فى يوم السبت الموافق الثانى من شهر ديسمبر 2023م، وفى كلمة ألقاها أمام منتدى ريجان للدفاع الوطنى فى ولاية كاليفورنيا، وأمام جمهور من أبرز المشرعين الأمريكيين ومسئولى الأمن القومى والمسئولين التنفيذيين فى قطاع الدفاع، قال وزير الدفاع الأمريكى «لويد أوستن» إن إسرائيل تخاطر بما أسماه «هزيمة استراتيجية» فى غزة، إذا لم تستجب للتحذيرات بشأن ارتفاع عدد القتلى المدنيين.
وبياناً لوجهة نظره فى هذا الشأن، أضاف الوزير: «فى هذا النوع من القتال، السكان المدنيون هم مركز الثقل. وإن دفعتهم إلى أحضان العدو، فستكون النتيجة هزيمة استراتيجية بدلاً من نصر تكتيكى»، معولاً على خبرته بصفته جنرالاً بأربعة نجوم أشرف على المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
ووفقاً لوجهة نظره، لا يمكن للجيش الإسرائيلى أن يكسب المعركة ضد حماس إلا إذا قامت القوات الإسرائيلية بالمهمة الرئيسية المتمثلة فى منع مقتل المدنيين والعمل لحمايتهم فى قطاع غزة.ومن ثم، وحرصاً منه على مصلحة الدولة العبرية وضماناً لتحقيق النصر فى هذه الحرب التى تدور رحاها على أرض قطاع غزة، قال أوستن: «لقد قمت شخصياً بالضغط على القادة الإسرائيليين لتجنب سقوط ضحايا من المدنيين، وتجنب الخطاب غير المسئول، ومنع العنف من قبل المستوطنين فى الضفة الغربية».
وتابع أنه يحث إسرائيل أيضاً على توسيع نطاق دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة بشكل كبير، مضيفاً أنه يتوقع توصيل المزيد من المساعدات «خلال الأيام المقبلة»، وذلك على حد قوله.
وأضاف «لذا دأبت على أن أوضح لقادة إسرائيل أن حماية المدنيين الفلسطينيين فى غزة هى مسئولية أخلاقية وضرورة استراتيجية».
وجاءت تعليقات وزير الدفاع الأمريكى فى الوقت الذى تزايد فيه صوت كبار المسئولين الأمريكيين فى تحذيراتهم لإسرائيل بشأن عدد القتلى فى قطاع غزة.
وتأتى هذه التصريحات فى ظل ضوء أخضر أمريكى لإسرائيل باستئناف عملياتها العسكرية ضد قطاع غزة، عقب انتهاء الهدنة التى تم التوصل إليها مع حركة حماس، والتى كانت مدتها الأصلية أربعة أيام فقط، تم تمديدها مرتين، لتصل مدتها الإجمالية إلى سبعة أيام.
وتعانى إسرائيل من ضغوط المجتمع الدولى حيال ازدياد عدد الضحايا من المدنيين، وسط مخاوف من تصاعد وتيرة العنف أكثر خلال المرحلة الثانية من الحرب.وتعهد أوستن بأن تقف الولايات المتحدة فى صف إسرائيل، مشيراً إلى التزام إسرائيل بالرد بعد هجوم حماس فى السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ووصف حماس بأنها «عدو وحشى».
وقال أوستن «ستظل الولايات المتحدة أقرب صديق لإسرائيل فى العالم. دعمنا لأمن إسرائيل غير قابل للتفاوض». وجدد أوستن أيضاً دعوات الولايات المتحدة إلى إقامة دولتين لحل الصراع الإسرائيلى الفلسطينى.
وتابع الوزير الأمريكى المسئول عن شئون الدفاع: «من دون آفاق الأمل، سيظل الصراع الإسرائيلى الفلسطينى محركاً لانعدام الاستقرار وانعدام الأمن والمعاناة الإنسانية».
وفى الوقت الذى تؤدى فيه الحرب بين إسرائيل وحماس إلى تصعيد التوتر فى المنطقة، تواجه وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) موجة تلو الأخرى من الهجمات على القوات الأمريكية من جانب جماعات مدعومة من إيران تنحى باللائمة على الولايات المتحدة فى أفعال إسرائيل فى غزة. واتهم أوستن إيران بتأجيج التوتر، مشيراً إلى الضربات الجوية الأمريكية الحديثة رداً على إيران.
وقال أوستن: «لن نتسامح مع الهجمات على العسكريين الأمريكيين. لذا، لا بد أن تتوقف هذه الهجمات».ورغم أن حديث وزير الدفاع الأمريكى قد جاء فى سياق النصيحة لإسرائيل والحرص منه على انتصارها، وإظهار الدعم الأمريكى غير المشروط لها، فإن السيناتور الأمريكى، «ليندسى جراهام»، رفض تحذيراته من أن المزيد من الخسائر فى صفوف المدنيين فى غزة قد يؤدى إلى ظهور المزيد من المتمردين، ويقود بالتالى إلى هزيمة استراتيجية بدلاً من النصر التكتيكى.
ومضى السيناتور الجمهورى فى وصف كلام وزير الدفاع الأمريكى بأنه «غير مقنع»، قائلاً إنه «فقد كل الثقة» به. وتساءل ليندسى جراهام: «هل ستؤدى الهزيمة الاستراتيجية إلى تأجيج الفلسطينيين؟ إنهم متأججون بالفعل. لقد تعلموا منذ ولادتهم أن يكرهوا اليهود ويقتلوهم»، داعياً أوستن إلى «التوقف عن انتقاد إسرائيل علناً».
وقال جراهام: «الوزير أوستن يخبر إسرائيل بأشياء من المستحيل تحقيقها. أيها الوزير أوستن، السبب وراء موت الفلسطينيين: غزة مكثفة للغاية، وحماس لديها أنفاق تحت الشقق، وتحت المدارس، وتحت المستشفيات».
وأضاف جراهام أنه يفهم النظرية التى أطلق عليها الجنرال المتقاعد ستانلى ماكريستال «حسابات المتمردين»، وهى فكرة مفادها أن موت المدنيين الجانبى فى الحرب يمكن أن يكون حافزاً لخلق المتمردين، لكنه قال إن سكان غزة «قد أصبحوا متطرفين منذ عقود»، حسب قوله.
وتساءل جراهام: «هل تعرف ماذا يدرسون فى المدارس؟ إن فكرة أننا أو إسرائيل بطريقة أو بأخرى (نؤدى) إلى تطرف الناس فى غزة هى فكرة سخيفة».
وانتقد جراهام أيضاً تصريح نائبة الرئيس الأمريكى، كامالا هاريس، يوم السبت الموافق الثانى من شهر ديسمبر 2023م، على هامش مؤتمر الأطراف للمناخ المنعقد فى إمارة دبى، حيث قالت إن «عدداً كبيراً جداً من الفلسطينيين الأبرياء قُتلوا».
وقال جراهام: «نائب الرئيس هاريس، قولى لإسرائيل كيف تدمر حماس بطريقة لا تؤذى الفلسطينيين الأبرياء، وسأمررها لك. وبالمناسبة، لا يوجد جمهورى يعتقد ذلك.
لا يوجد أى جمهورى يطلب من إسرائيل تغيير تكتيكاتها العسكرية».وفى المقابل، فإن وسائل الإعلام العربية وبعض وسائل الإعلام الأجنبية الناطقة باللغة العربية احتفت بتصريحات وزير الدفاع الأمريكى، معتبرة إياها اعترافاً أمريكياً بهزيمة إسرائيل وانتصار المقاومة فى قطاع غزة.
ولعل ذلك يبدو جلياً من مطالعة العناوين التى اختارتها الصحف العربية ووسائل الإعلام الناطقة بالعربية للتصريحات سالفة الذكر، حيث جاءت هذه العناوين على النحو التالى:
- البنتاغون: لا يمكن للجيش الإسرائيلى أن يكسب المعركة ضد حماس ونتوقع هزيمة استراتيجية له فى قطاع غزة (رأى اليوم، 4 ديسمبر 2023م).
- وزير الدفاع الأمريكى لا يستبعد هزيمة استراتيجية لإسرائيل فى قطاع غزة (وكالة قدس برس، 3 ديسمبر 2023م).
- البنتاغون لا يستبعد هزيمة إسرائيل الاستراتيجية فى قطاع غزة (وكالة روسيا باللغة العربية RT، 3 ديسمبر 2023م).
- هل تتكبد إسرائيل هزيمة استراتيجية فى حربها ضد حماس فى غزة؟ (وكالة روسيا باللغة العربية RT، 3 ديسمبر 2023م).
- وزير الدفاع الأمريكى: إسرائيل قد تتلقى هزيمة استراتيجية فى غزة (العربى الجديد، 3 ديسمبر 2023م).
- البنتاغون يتوقع هزيمة استراتيجية لـ«إسرائيل» بغزة فى هذه الحالة (عربى 21، 3 ديسمبر 2023م).
والواقع أن هذه التصريحات المنسوبة إلى وزير الدفاع الأمريكى كاشفة وفاضحة للثقافة الأمريكية، التى تنظر إلى حماية المدنيين باعتبارها ليست هدفاً مقصوداً فى حد ذاته، وإنما من الزاوية النفعية الاستراتيجية.
ولعل ذلك يؤكد مرة أخرى أن الساسة الأمريكان لا يعرفون سوى منطق واحد، وهو المنفعة والفلسفة النفعية، ولا يعيرون أدنى اهتمام إلى المفاهيم الأخلاقية وحقوق الإنسان والقانون الدولى العام والقانون الدولى الإنسانى على وجه الخصوص.
ولذلك، لم تظهر مثل هذه التصريحات فى الأيام الأولى للحرب، حيث توقعت الحكومة الأمريكية أن ينتهى جيش الاحتلال الإسرائيلى من مهمته بأقصى سرعة أو ما يطلق عليه الحرب الخاطفة.
إن مبدأ المنفعة هو الحاضر دائماً فى السياسة الأمريكية، وبحيث تدور توجهات الحكومة الأمريكية وجوداً وعدماً مع مبدأ المنفعة.
ورغم الاختلاف بين لويد أوستن وليندسى جراهام، فإن هذا الخلاف لا يدور على خلفية فلسفية أخلاقية، وإنما يتعلق بمبدأ المنفعة.
حيث يؤكد لويد أوستن أن المنفعة الإسرائيلية تتطلب الحرص على حماية المدنيين، بينما يرى ليندسى جراهام أن هذه المنفعة غير موجودة من الأساس، مدعياً أن الفلسطينيين متطرفون بطبعهم بحكم دراستهم، وليس كرد فعل أو أثر للهجمات الوحشية الإسرائيلية.
ويعود مصطلح «الفلسفة النفعية» للمصلح الاجتماعى والفيلسوف الإنجليزى جيرمى بنتام (1748 - 1832)، وهى فلسفة تقيس صواب العمل بما يحققه من منفعة وسعادة للإنسان، كما تحرص على تخفيف آلامه ما أمكن لها ذلك.
أما جذور الفلسفة النفعية فتعود إلى مجموعة من المفكرين والفلاسفة، كجون ستيوارت ميل (1806- 1873م) صاحب كتاب «مذهب المنفعة»، وهربرت سبنسر (1820 - 1903م) وهنرى سيدجويك (1838 - 1900)، وغيرهم.
وبالنسبة لبنتام الذى تنسب إليه هذه الفلسفة، التى خط مبادئها فى كتابه «مدخل إلى مبادئ الأخلاق والتشريع»، فقد ذهب إلى أنه استعار هذا المفهوم من الفيلسوف الأسكتلندى «ديفيد هيوم» فى سياق حديثه عما سماه «مبدأ المنفعة».
وجدير بالذكر فى هذا الصدد أن هيوم كان قد درس أعمال «فرنسيس هوتشيسون» وتبادل معه العديد من الرسائل والنقاشات، حيث كان هوتشيسون من أوائل من ألقى الضوء على مفهوم النفعيَّة، وكان ذلك فى كتابه الموسوم «بحثٌ عن الجمال والفضيلة»، المنشور فى العام 1725م.
والفضيلة بالنسبة لهوتشيسون، لا بد أن تكون متناسبة مع عدد الأشخاص السعداء، وفى المقابل فإن الأسوأ أو الأكثر شراً هم الذين سيلحق بهم الضرر والمعاناة.
أما بالنسبة لبنتام فقد حدد فى كتابه معيار تمييز الفعل الخيّر عن غيره، وكان الفعل الحق هو النافع بالنسبة لفلسفته، وهو الذى بدوره يجلب الخير.
وتدعم هذه الفلسفة أطروحاتها من حقيقة إنسانية متجذرة فى الطبيعة الإنسانية، فالإنسان بطبعه يسعى إلى تحقيق اللذة، وتجنب الألم.
ومن ثم، يرى بنتام أن النفعية بهذا المعنى تفيد كأساس لكل مظاهر الحياة البشرية، السياسية، والاقتصادية والقانونية، وتتخطى حدود الدولة الواحدة إلى مستوى العلاقات الدولية.
وحتى ترتقى إلى مستوى الطموح البشرى لا بد لها من أن تبحث أسئلتها الفرعية المتعلقة بمعايير توجيه سلوك الفرد، علاوة على معالجة السؤال الأساسى المتعلق بانسجام وتكامل مصالح الأفراد والجماعات والدول.
ومع ذلك، ورغم اعتمادها على فكرة النفع أو المصلحة، فإن هذه الفلسفة تقدم نفسها كفلسفة أخلاقية، وذلك على خلاف ما أُدينت به كفلسفة أنانية، ولا أخلاقية.
ومما يلفت النظر ويسترعى الانتباه فى الفلسفة النفعية أن روادها الأوائل كانوا من الإنجليز.
ولذلك، فإن تغلغل الفلسفة النفعية فى الثقافة الأنجلو سكسونية هو الذى يفسر لنا توجهات السياسة الأمريكية وسلوكياتها وتصرفاتها على مر العصور وفى مواجهة كل الأحداث والأزمات.
وهذه الفلسفة هى التى تفسر لنا الاختلاف فى المواقف بين السياسة الأمريكية البريطانية من جهة وبين السياسة الفرنسية من جهة أخرى.
إذ يمكن القول إن السياسة الفرنسية ترتكز بشكل أكبر على فلاسفة عصر التنوير، وبوجه خاص الفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط، والذى كان أحد المؤسسين للفلسفة المثالية، وكان من المطالبين من أجل حقوق الإنسان، وأكد على المساواة بين الناس.
وقد تأثر كانط فى هذا الجانب تأثراً عميقاً بالمفكر والسياسى الفرنسى جان جاك روسو، الذى كان يطرح فى كتاباته تساؤلات عميقة عن طبيعة الأخلاق وطبيعة المجتمعات ومشكلة الأفراد والفلسفة الفردية.
والواقع أن كتاب «نقد العقل المحض»، للفيلسوف الألمانى الكبير إيمانويل كانط يعد دون شك أحد أعظم الأعمال الفلسفية على مر العصور، وأشهر كتبه بالتأكيد.
ومع ذلك، فإن كتابه عن «الأساس الميتافيزيقى للأخلاق» لا يقل عظمة على الإطلاق.
ومن خلال هذا الكتاب، يبدو سائغاً القول إن رؤية كانط للأخلاق كانت شديدة الوضوح والرصانة.
والنقطة الفارقة عند كانط فى هذه المسألة تكمن فيما يتعلق بالدافع (motive)؛ فكلما كان الدافع نابعاً من غريزة ما، أو من مصالح على المدى البعيد، فالفعل ليس أخلاقياً على الإطلاق، بل نفعى فقط.
ومنه يرى كانط أن المتدين حين يقوم بعمل خيرى ما، وينتظر فى المقابل حياة أخرى يلبى فيها شهواته وغرائزه فهو انتهازى لا أكثر.
إذ يرى كانط أننا يجب أن نقوم بالعمل الأخلاقى لذاته فقط. وفى هذا، يمكن أن نعتبر مثالاً بسيطاً لبائع فى محل تجارى، يتصرف بأمانة مع الزبائن، ليس لأنه يرى فعل الأمانة خيراً، وإنما لكيلا تتضرر سمعته وبالتالى يفلس المحل.
هنا يرى كانط أن الفعل غير أخلاقى، لأن هذا العامل بالذات لو أتيحت له فرصة مضمونة للغش دون عواقب فسينتهزها فى الغالب.
فالأمانة يجب أن تعتمد لذاتها كعمل أخلاقى قبل أن ننظر لعواقبها.
وفى النقطة ذاتها، يرى جون ستيوارت ميل أننا نتصرف بأمانة لأن «المجتمع سيكون أسعد بوجود الثقة فى المعاملات، وبالتالى فالمصلحة العامة تقتضى أن نكون أمناء»، كانط يعترض هنا أيضاً، ففى حالات معينة قد نجد المصلحة تقتضى الإضرار ببشر آخرين، وهذا ما يجب أن يكون مرفوضاً من حيث المبدأ.
ومكانة كانط فى الفلسفة الحديثة لم تأت من فراغ على الإطلاق، فنظرياته فى الأخلاق وضعت الأساس الفلسفى الرصين لما يسمى الفكر «الإنسانى»، واحترام الإنسان ﻛ«غاية» فى حد ذاتها، وبغض النظر عن خصائصه.
هنا يقول بفكرة «التعميم»، أى أن تتصور الجميع يقوم بنفس العمل، ثم شكل المجتمع، أو العالم حينها.
فإعطاء وعود كاذبة عمل غير أخلاقى، لأنه لو تبناه الجميع ستصبح الكلمة بلا قيمة.
هنا ينظر كانط للمصلحة العامة، ليس كسبب للقيام بالعمل الأخلاقى، وإنما كمعيار لقياس مدى أخلاقيته فى البداية.وربما يرى الكثيرون هذا المبدأ حالماً أكثر من اللازم، وأن كانط كونه ينتمى لعصر الفلسفة المثالية الألمانية، قد وضع أساساً غير عملى لقياس الأخلاق.
عكس المعيار الدينى على سبيل المثال، والذى يعد واضحاً وصريحاً، ويسهل فهمه بالنسبة للعامة.
إن كانط يجيب عن هذه النقطة بنفسه، فيرى المعيار الدينى للأخلاق أكثر غموضاً، كونه لا يعتمد على أسس واضحة إطلاقاً، فأنت دائماً تحتاج لمفتٍ ليملى عليك ما هو أخلاقى، وليس من المستبعد أن يستغلك هذا المفتى كوسيلة لتحقيق هدف ما، وليست كل الحروب الدينية وما صاحبها من إبادات وجرائم إلا نتيجة لذلك.
والكارثة هنا أن المسيحى مثلاً حين يغزوا أفريقيا باسم الرب ثم يقتل الرجل فى وطنه ويعود بزوجته سبية إلى روما، يرى الأمر أخلاقياً، لمجرد أن البابا يرى ذلك. فهنا تم تبرير القتل والاغتصاب والسرقة بجرة قلم من رجل دين.
ويميز كانط بين الحب والاحترام، حيث يرى أن الحب هو شعورى فردى بالدرجة الأولى، وليس من المعقول أن يحب الشخص مجتمعات بالجملة، أياً كان الرابط المشترك معهم، ولك كامل الحق فى أن تحب أو لا تحب شخصاً ما. وفى المقابل، فإن الاحترام حق طبيعى، يولد مع الإنسان ويموت معه، ولا علاقة له إطلاقاً بلون الشخص أو أصله أو دينه.
وهنا يرى كانط نفسه تفوق على الأديان بمراحل، كون المتدين الملتزم أو ما نسميه الأصولى لا يمكن بأى حال من الأحوال أن «يحترم» ديانة مختلفة، وأى خطاب غير ذلك هو مجرد دبلوماسيات تتبناها الرموز الدينية.
فالأخ فى جميع الأدبيات الدينية هو «الأخ فى الدين»، وغير ذلك هو شخص غريب يمكن أن نعتبره إنساناً من الدرجة الثانية فى أحسن الأحوال.
إن مكانة كانط فى الفلسفة الحديثة لم تأت من فراغ على الإطلاق، فنظرياته فى الأخلاق وضعت الأساس الفلسفى الرصين لما يسمى بالفكر «الإنسانى»، واحترام الإنسان ﻛ«غاية» بغض النظر عن خصائصه أو أفكاره، وهذا ما يجعلنا نحترم كانط كفيلسوف وكإنسان.
أما الفلسفة النفعية التى تتبناها السياسة الأمريكية فهى قدرنا الذى لا فكاك منه، ويجب علينا أن نبحث عن أفضل السبل للتعامل معها من خلال تعظيم جانب المنفعة فى تعاملاتهم معنا، وبحيث يجدون مصلحتهم الأكيدة فى اختيار الوقوف معنا.