أتخيل نفسى فى مقعد أى منهم؛ هؤلاء الجالسين خلف الشاشات، لرصد وتحليل ردود الفعل، وبناء المواقف والأحكام، يحللون واقعاً افتراضياً، عبر منصات هى والعدم سواء، إذا ما حدث ما يتمناه الملايين بمنع مواقع التواصل الاجتماعى فى مصر، مثل غيرها من الدول التى سبقتها إلى القرار، حقيقة لن يضار المصريون كثيراً، سيعود الرجال إلى مقاعدهم على المقاهى ويتبادلون نفس النكات والأحاديث، وستعاود النساء اللمة فى بيت إحداهن، ويتداولن الحوارات نفسها، سنعود جميعنا إلى كرتنا الأولى، بعيداً عن الرصد والتحليل والبيانات، ودون لجوء إلى ارتداء وجوه غير وجوهنا، ولا ادعاء مواقف سواء كانت مثالية أو عنترية.
ومنشأ الفرضية هو ما ضجت به مواقع التواصل الاجتماعى من فيديوهات على مدار الأيام الماضية، تعرض مفارقات المصريين، الذين توافدوا للتصويت فى الانتخابات الرئاسية، فيما كانت لبعضهم مواقف متباينة فى فيديوهات سابقة عبروا فيها بارتياح عن غضبهم من زيادة الأسعار، صرخ أحدهم: «لحد إمتى؟»، وشكا الثانى: «السكر يا ريس»، فيما خطفت ثالثة الميكروفون السلكى البسيط، وقالت: «الأسعار حلوة للى معاه تموين.. إحنا هنعمل إيه؟».. الانتقاد الموجه لهؤلاء، والاتهام الضمنى الذى حملته صفحات اللجان ومدعى الوطنية هو نفسه الرد عليهم، فالشكوى من الغلاء والأسعار تصلح لكل عصر فى مصر، وهم فى هذا السياق يشكون للرئيس، يطالبونه بالتدخل والحسم كعادته، وكأن الرسالة الضمنية التى ينقلها المشهد: «ليس معنى كل هذا الزخم أمام اللجان أن الحياة وردية، ولا معنى الشكوى المستمرة من غلاء الأسعار أننا نبحث عن رئيس غيره».
وبعد أن ظهرت نتيجة الانتخابات، ودعونا نتفق أنها متوقعة، منطقية، ليس فيها دهشة ولا مفاجأة ولا صدمة، لكننا فرحون.. فلماذا نفرح وبماذا؟
حالة الترقب التى فرضناها على أنفسنا لاستقبال اسم المرشح الرئاسى الفائز بمقعد رئاسة مصر لمدة 6 سنوات مقبلة، بين 4 مرشحين تنافسوا فى الانتخابات، قد يراها البعض مفتعلة، لكنه اتهام لا يستقيم عليه دليل، إذا ما وضعنا فى الاعتبار أن الترقب لم يكن لنتيجة الانتخابات، قدر ما كان للأرقام التى ستعطى لهذه الانتخابات خصوصية ربما لم تتكرر فى تاريخ مصر، ستعطيها قيمة عظمى تتناسب مع إجرائها فى هذا التوقيت، وسط هذه التحديات، بمثل هذه النسب.
لم تشغل النخبة نفسها بنتيجة الانتخابات، قدر ما شغلت نفسها بموقع الوصيف، من الذى حل فى المركز الثانى من حيث عدد الأصوات، حتى لو كان الفارق العددى بين الفائز بمقعد الرئاسة ووصيفه سنوات ضوئية من الأرقام، يظل من يمثل المعارضة أو يمثل الجهة الأخرى اسماً مهماً، حسمه حازم عمر المحسوب على النظام أكثر من معارضته، فى حين حل ثالثاً فريد زهران المحسوب على المعارضة أكثر من النظام، فى مفاجأة حقيقية للنخبة التى وجدت فى صوت زهران العالى وإثارته للجدل سياقاً مقبولاً لمعارضة وطنية فى وقت تحاول فيه الأحزاب السياسية استرداد نفسها والوجود مرة أخرى فى الشارع المصرى وفى الحكومة الجديدة للرئيس المنتخب.
لم يشغل المصريون أنفسهم بالانتخابات كثيراً، اعتبروها نزهة أكثر منها تحدياً سياسياً، ربما شجعت أحداث غزة والحرب الدائرة على الحدود فى زيادة حماسهم للمشاركة، ربما قللت لجان الوافدين عثرة ملايين وشجعتهم على التصويت، لكن الحتمى أن شخص عبدالفتاح السيسى كان فارقاً وحاسماً أكثر وأكثر، لأسباب تتجاوز كونه الرئيس الحالى.
حرصت بدافع صحفى للوجود خلال يومين فى لجنتين، إحداهما لجنتى الانتخابية والثانية للوافدين، وجدت للرصد وسؤال «ليه السيسى؟»، كانت الإجابات مقتضبة متباينة مختلفة من فئات أيضاً متنوعة من المصريين، سمعت الكثير والكثير والكثير، وتوقفت عند إجابة واحدة، لرجل قال عبارة غاية فى البساطة: «كلمته واحدة.. كان سهل يكدب، بس اختار الطريق الصعب»، لم يزد الرجل فى الحديث، يعانى مثل ملايين من أشياء كثيرة، لكن معاناته لم تعمِ عينيه عن حقيقة السيسى، التى لم يبرحها خلال 10 سنوات عمر علاقته بنا، منذ ظهوره الأول وتضحيته الكبرى، يفضل المواجهة فى زمن المواربة، الصدق فى زمن الكذب، الحقيقة فى زمن السراب.
لم يشغل المصريون أنفسهم بالدعاية السلبية، والشائعات التى أدارها الإخوان وقوى الشر فى وصف الانتخابات، ثمة عدم اهتمام بما يقولون ويصدرون عن مصر، لقد كشفت الحرب فى غزة الوجوه جميعاً، وجه من يفعل ووجه من يتكلم.. ووجوهاً عجزت عن الفعل والكلام، يوم أن أذل الحرص أعناق الرجال، وينطبق على رؤساء دول وملوك وأمراء وأعضاء منتمين للتنظيم الإرهابى وصف الذل، ولا يليق بهم وصف الرجال.
.. الآن، ينطلق الرئيس السيسى فى مهمة جديدة، مدفوعاً بظهير قوى اسمه الشعب المصرى، فترة رئاسية جديدة تستمر 6 سنوات أخرى، يتلقى التهانى من كل دول العالم، منذ متى واختيار رئيس لمصر محط اهتمام للعالم كله، يحرصون على تهنئته ومتابعة انتخابه، بالرصد والتحليل لهذه الدرجة، لقد حدث هذا بفضل الصفة نفسها، التى انتخبه لأجلها الرجل البسيط: «كلمته واحدة.. كان سهل يكدب، بس اختار الطريق الصعب».