19 عاماً مرت على لقاء صحفى له خصوصية بالغة، أجريته مع المفكر الكبير عبدالوهاب المسيرى، ونشرته فى العزيزة «المصرى اليوم»، لم نتطرق يومها لباعه الضخم فى تعريف وتوصيف الصراع العربى الإسرائيلى، لم نذهب لتفصيل الفروق بين اليهود واليهودية والصهيونية الذى أفرده فى موسوعته الشهيرة، ذهبنا إلى مؤلفاته للطفل، إذ إنها بالنسبة له مجال شديد الثراء لطرح أفكاره نفسها وشرح مبادئ الصراع العربى الإسرائيلى من «النقطة صفر».
رحل المسيرى، وترك لنا 8 مجلدات من موسوعته ننهل منها النظريات ونؤسس عليها مبادئ جديدة للتعامل، رحل وترك الطفل وقد كبر وصار شاباً يعى من القضية مساراتها جميعاً، إذ قرأها فى قصص أطفال، ووعاها فى مشاهد حية تمتلئ بها الشاشات، دون أن يجد إجابة للسؤال الصعب: «لماذا هذا الصراع؟.. ولماذا يتقاتل أبناء العم؟».
قبل أيام والعالم يمهد ويستعد لهدنة ترحم من تبقى من الفلسطينيين فى منازلهم، وتؤمّن من بقى من إسرائيليين فى الأراضى المحتلة، تباغت قوات الاحتلال بحركة صبيانية تستهدف فيها نزع فتيل الأزمة وتوسيع رقعة الصراع، واستدعاء لبنان كدولة وحزب الله ككيان للصراع الذى لم يخفت بعد فى فلسطين، لا صدفة تحرك قوات الاحتلال، ولا شىء دون خطة أو تخطيط، والهدف معلن وواضح لمن يقرأ الصور ويحلل المشاهد أو لمن قرأ موسوعة «المسيرى» الشارحة، وضحايا هذا الهدف أيضاً واضحون، يقعون فى كل منطقة بالعالم، أولئك الطبيعيون من دُعاة السلام.
تحدثنا كثيراً عن الفلسطينى، صاحب الأرض وصاحب الحق وصاحب التضحية الأعظم من أجل وطنه وأرضه وقناعاته، قدّم فيها ولها كل ما يملك، البيت تهدّم والأبناء صعدوا شهداء، والأهل تفرقوا فى شتات الأرض، والدم سال وروى الأرض العطشى، والمستقبل أصبح أن يسمع صوت أنفاسه، والماضى أصبح كوابيس تلاحقه وفى كل كابوس شعور عام بالخزى والعار والعجز، والحاضر هو ألم بطنه الذى يئن من مجاعة محققة إذا استمرت وحشية الاستعمار وصمت العالم.
ولأنهم يتعلمون لغة الأعداء، فلماذا لا نتحدث قليلاً عن الإسرائيلى، سيقرأ الكلمات ويعيها جيداً، ليس من باب التعاطف معه، لا تعاطف مع محتل، لكن لأنه أيضاً مستخدَم فى سياق لم يختره، موظف فى حرب لم يُدعَ إليها، لا فارق لديه بين أرض الميعاد وأرض الأجداد وأى أرض أخرى، يبحث عن الأمان ويضغط على حكومته لتحقيقه، وتتوارى الحكومة برئيسها الدموى خلف مخاطر واهية خلقها لتصبح فزاعة يتم التلويح بها فى كل لحظة تشعر فيها الحكومة أنها مهددة بالطرد أو غير مرغوب فيها. تتوقف الحرب؛ فيُطرد نتنياهو شر طردة، يخرج من الحكومة، وربما لا يستقر فى بيته؛ يستقبله السجن فى عدد من الاتهامات الموجهة له، السيناريو بحذافيره يحدث كل مرة، وفى كل مرة يعلم الإسرائيليون الإشكالية، يتبرعون بما يجيدونه، لا يجيدون الاحتجاج والاعتراض، لا يظهرون فى مواجهة، يتوارون خلف مخاوفهم، يسجلون الفرار من التجنيد الإجبارى، ويخرجون جوازات السفر الأخرى يسارعون بها لكل دول العالم التى تحقق لهم الأمان، فقد أصبحت حكومتهم عاجزة عن تحقيق الأمان مع الفلسطينيين، وأيضاً مع الإسرائيليين، لكنها تستخدم لكل صنف لغته، المواطن الفلسطينى يحاربونه بالمصالح المشتركة مع دول العالم الكبرى، والمواطن الإسرائيلى يحاربونه بفزاعة «نتنياهو أو الفوضى».. وكلاهما سواء.
«ماذا تفعل لو كنت إسرائيلى»؟.. لا يمكن لعربى الإجابة عن السؤال، وبالأحرى لا يمكن لمصرى الإجابة، فنحن الشعب الوحيد فى العالم الذى حفظ الود وصان العهد، وصار بقاعدة «امضى يا أشول» للزعيم عادل إمام ورفيقه سعيد صالح، وقّع المصريون اتفاقية على ورق، وظل ما فى القلب.. فى القلب.
ورغم الأهداف السامية التى وضع من أجلها د. المسيرى موسوعته، من تفرقة بين اليهودية كديانة وبين الإسرائيلية والصهيونية كحركتين، والقضاء على كل محددات تجمع اليهود الإسرائيليين تحت سمات أو مواصفات واحدة، فإن ثمة باباً مفتوحاً فى الموسوعة نفسها ينسف فرضيتها، لماذا يجتمع الإسرائيليون تحت لواء الوحشية، لماذا لا نجد يهوداً معترضين على ممارسات إسرائيل داخلها؟، غالبيتهم فى دول أخرى، يقفون لدولة الاحتلال بإعلان رفضهم لممارساتها.. إذن ثمة رابط يجمع الإسرائيليين، ربما تكون لعنة تصيب من اغتصب أرضاً أو بيتاً وأقام حياة على جثامين غيره، هؤلاء ليس أمامهم من فرصة للنجاة من اللعنة سوى المغادرة، ليست أرضكم ولا ميعادكم.. وإلى أن يحدث، لا راحة لكم فيها ولا حياة لكم عليها.