ليس من قبيل الزهو بالنفس أن أتحدث عن التعليم فى مصر، تاريخه ومسيره ومصيره ومستقبله القريب والبعيد. فهو قضية أساسية فى تقدّم مصر من الأمس وإلى اليوم وسيقودها فى المستقبل إلى دنيا مُشرقة وعالم متطور يتفوق حتى على أحلام الناس بمستقبل أفضل، فرغم أن مواثيق الأمم المتحدة تنص على أن التعليم حق أساسى من حقوق الإنسان وحرمانه منه أو عدم استكمال الفرد لما يحتاجه من نتائجه المُبهرة يجعل حياة الإنسان تطرح من الأسئلة عليه أكثر مما تُقدّم له من إجابات.
ويكفى أن نقرأ ثلاثية الأيام لعميد الأدب العربى الدكتور طه حسين عندما نشأ بقرية فى صعيد مصر. وبفضل التعليم الذى تمكَّن من تحصيله رغم فُقدانِه البصر مُبكراً أصبح أهم الشخصيات الثقافية ليس فى مصر وحدها ولا فى الوطن العربى ولا العالم الإسلامى، ولكن فى الدنيا كلها.
ومن يقرأ سيرته الذاتية التى دوَّنها عن حياته بعنوان: «الأيام» بأجزائها الثلاثة. سيُدرِك كيف كانت النقلة الجوهرية فى عُمره عندما انتصر على عاهته التى كانت جُزءاً من قدره ونصيبه فى الدنيا «وانتصر عليها أيضاً وهذا هو الأهم»، أى أنه قَهَرَ الأُميَّة ليُصبح بعد ذلك عميداً للأدب العربى من المحيط إلى الخليج. بل إن الغرب ينظر إليه على أنه جسر تواصل وتفاهم بين أطراف الدنيا كلها.
التعليم حق من حقوق الإنسان على مجتمعه وعلى أهله وناسه وعلى دولته التى ينتمى إليها. ويجب أن يحصل عليه بسهولة ويُسر، وبعيداً عن أى تعقيدات روتينية أو مُجتمعية. وكم أحلُم وأنا أحيا فى مصر أن يمتد بى العُمر -وتلك إرادة الله سبحانه وتعالى- حتى أرى احتفالنا جميعاً بمحو أميَّة آخر مصرى.
فالعلم نورٌ يكشف عن كل ما هو جميل فى الدنيا. وبالعلم يتواصل الإنسان مع حضارته القديم منها والوسيط والمُعاصر ويسمو على ذاته ويعتمد على أفضل ما فيه. لذلك كان التعليم وسيظل وسيبقى الركيزة الأولى التى تجعل من الإنسان إنساناً. وتُكسِبه أكبر قدرٍ من التحضُّر والإنسانية والشفافية فى موقفه من الدنيا. وطريقة تصرُّفه مع الحياة التى يحيا فى وسطها.
لذلك أعتبر أن تخصيص يوم للتعليم على مستوى العالم مسألة مهمة. والتعليم لا يعنى «فك الخط» بمعرفة القراءة والكتابة فقط. بل يتجاوز فعل القراءة الذى تختلف ساعات إقبالنا عليه من إنسان إلى آخر. بل إن الإنسان المُتعلِّم يُصبح ركيزة من ركائز التقدّم والازدهار والمدنية فى مصرنا الحديثة.
والوثائق الدولية تتوقف طويلاً أمام التعليم وتعتبره أساساً لا بد منه لكى يعيش الإنسان مُتحضِّراً. وقد عبّرت الأمم المتحدة عن الحق بالتعليم فى المادة 26 من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان. لكل إنسان حق غير قابل للنقص ومضمون فى أن يكتسب دون عقبات المعارف والمهارات اللازمة لضمان حياة كريمة ومستقلة. وقد أكد ذلك عدد من اتفاقيات حقوق الإنسان.
التعليم هو أساس الحرية الشخصية فى مجتمع ديمقراطى، وتقع على الدول مسئولية دولية تجاه ذلك. فى القرن العشرين تم إحراز تقدّم كبير فى جميع أنحاء العالم لإعمال الحق فى التعليم، لدرجة أنه يمكن تحقيق التعليم الأساسى على الأقل من قِبل الكثير من الأشخاص الذين يمكنهم القراءة والكتابة والحساب وعدد الأطفال الذين ليست لديهم هذه المهارات الأساسية يتناقص. يُعطى هذا الأمل ولكن لا يزال هناك الكثير من التحديات فى كثير من البُلدان والمناطق من العالم، حيث لا يستطيع الناس حتى اليوم الوصول إلى التعليم تمشياً مع هذه المخاوف. وقد تم توسيع حقوق الإنسان فى التعليم كمبادرة شعبية من خلال التأكيد على أن التعليم حق لجميع الشعوب ويجب الدفاع عنه.
إن الاحتفال بيوم التعليم يجب أن يبدأ من القرية المصرية ومن الأماكن البعيدة النائية التى توجد عند حدود مصر مع جيرانها فى الجهات الأربع. ويجب أن نحتفل برموز التعليم المصرى الذين أفنوا حياتهم فى خدمة هذا الجانب فى حياة الإنسان، وأن نُشجِّع كل من يسعى لأن يتعلم. ويجب أن تكون نظرة المجتمع لمن لم يتعلم -مهما كانت ظروفه- على أنه فى حاجة إلى العلم والمعرفة والإدراك حتى يكون إنساناً كامل الأهلية وقادراً على أن يبنى مجتمعه وبلاده على أسس سليمة. وأن يحرص على تعليم أبنائه الذين يشكّلون الأجيال الطالعة من الشعب.
إن مصر صاحبة أقدم حضارة فى التاريخ. وقد تركت لنا هذه الحضارة مدونات على أوراق البردى تقول إن فجر الإنسانية عرفه المصريون قبل الدنيا كلها. لذلك فأنا أحيا وأعيش كى أرى مصر، وهى تحتفل بمحو أُميَّة آخر مصرى فيها.