الاختزال آفة من آفات العقل البشرى، لكنه يبدو طبيعياً عندما يخرج عن بشر تُنسيهم الخصومة أبسط قواعد الموضوعية، وأحياناً الإنسانية، فى الحكم على الأشخاص. أقول ذلك بمناسبة بعض التعليقات التى قرأتها لعناصر من جماعة الإخوان على هامش رحيل المبدع الكبير، شاعر المصريين، عبدالرحمن الأبنودى، الرجل الذى غزل بكلماته وجدان الوطن منذ الستينات وحتى الآن. فقد أمطره أشاوس من الجماعة بوابل من الهجوم وهو بين يدى حكيم عليم، من منطلق أنه كان من المؤيدين للرئيس «السيسى»، عابرين بسذاجة يُحسدون عليها على إبداعه الشعرى الذى لو تمكّن سطر واحد من سطوره من قلوبهم وعقولهم لما خاصموا وطناً بأكمله! تأييد أو معارضة الرئيس أمر لا يعنينى، فكل إنسان حر فى رأيه، لكن مخاصمة شاعر عبّر عن أفراح وأتراح وطموحات ومواجع أجيال متعاقبة من أبناء هذا الشعب، أمر يحمل من السفه زاداً وفيراً.
لا ينتقص من عطاء «الأبنودى» الشعرى امتداحه لعبدالناصر أو السيسى أو غيرهما من رؤساء مصر، ولو كان الإخوان يقرأون لعلموا أن مدح الملوك والرؤساء تردد على ألسنة العديد من شعراء العربية الكبار. أمير الشعراء أحمد شوقى مثلاً امتدح الملوك والسلاطين الذين عاصرهم، ودبّج القصائد الموسمية فى أعياد جلوسهم على عرش مصر. ذلك هو أحمد شوقى الذى كتب أعظم القصائد الدينية التى يتغنى بها كل من له قلب يحس أو يشعر. و«المتنبى» امتدح سيف الدولة «الحمدانى»، بل وكتب العديد من القصائد يحتفى فيها بـ«كافور الإخشيدى»، وعندما انقلب عليه كتب يهجوه قائلاً: «ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة.. ليضحك ربّات الحداد البواكيا»، ولم يعتق الشعب المصرى الذى حكمه «كافور» من الهجاء فى واحد من أخلد الأبيات الشعرية التى تصف تديُّن المصريين، يقول فيه: «أغاية الدين أن تحفوا شواربكم.. يا أمة ضحكت من جهلها الأمم». فالتدين الشكلى الذى يختزل الدين فى إطلاق لحية وحف شارب هو قمة الجهل والسفه، وأقول لك إن هذا البيت الشعرى من أخلد ما كتب «المتنبى»، لأنه ما زال قادراً على تفسير نمط التدين المسيطر على العديد من أعضاء الجماعات فى مصر الذين يصرفهم الاحتفاء بالمظهر عن الانشغال بجوهر الإسلام، وقد أصابوا الكثيرين بهذه العدوى التى أضرت بالدين كما لم يُضر به أعداؤه.
مشكلة الإخوان أنهم يتعاملون بذاكرة مثقوبة بشكل يزداد اتساعاً بمرور الزمن. فلو كانوا يقرأون، ولو تاريخهم، لعلموا أن الشيخ حسن البنا، المرشد الأول للجماعة، كان من أشد الداعمين لإسماعيل صدقى أشهر ديكتاتور سياسى فى مصر ما قبل عام 1952، وكان معروفاً بأنه رجل الأجانب فى مصر، وراعى مصالحهم فى بر المحروسة، كما أكدت بعض الدراسات التاريخية أن ثمة علاقات مشبوهة جمعت بينه وبين اليهود! لهذا الرجل كان «البنا» يكلف الشباب الإخوانى بالتظاهر، ليهتفوا للديكتاتور بهتاف قرآنى يستدعى الآية الكريمة التى تقول: «واذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً». ثم تعال إلى الدكتور «بديع»، المرشد الأخير للجماعة، الذى كان يصف «مبارك» بـ«الأب»، ولم يكن يمانع فى توريث الحكم لنجله! والسؤال: هل هناك سفاهة أكثر من ذلك؟ رحم الله «الأبنودى»، فسيظل شعره خالداً ما دام الإحساس.. كما سيدوم الفكر السفيه ما عاش الجهل!