أراه يجلس أمام جمهوره، العالم الكبير د. على جمعة يتحدث عن أقنعته، هذا يريده متشدداً، وهذا يريده متصوفاً، وهذا يريده متحرراً، فيما هو يحاول إقناع الثلاثة بهويته الأساسية، عالماً يمنحك الفتوى، النصيحة، التوجيه.. اختر ما شئت من المسميات.
فى «نور الدين» نكأ الدكتور على جمعة جراحاً كثيرة، خلع قناع المعتاد والمألوف لصالح قناع الحق بما ورد فى الكتاب، نحن مدفوعون للاجتهاد فى النص، ومدفوعون أيضاً بجهاد النفس، وكلاهما لا يستقيم فى مجتمع أقام فيه الجميع الحد، امتلكوا سلطة الرأى بسلاح السوشيال ميديا، سأقتلك بهاشتاج وأبيح دمك ببوست، ولا مانع من خوض فى عرض وتشويه تاريخ بصفحات أعدت خصيصاً وأناس اقتاتوا من وراء المهمة السهلة المستترة.
جلس «جمعة» على مقعده الذى لم يغادره منذ أن عرفناه وعرفنا، عالماً جليلاً له منهجه، عشت سنوات طفولتى على صيته الذائع فى دروس مسجد الرفاعى، شيخاً مجدداً يتحدث فى كل شىء، بمنطق أقرب لفهم العامة، يعتمد التبسيط فى شرح ما استلغز على رواد مجلسه، كان هذا قبل أن يعرف مناصبه الرسمية، قبل أن يحل مفتياً للديار المصرية، وقبل أن يصبح هدفاً وصيداً لراغبى التشويش على الفكر، أصحاب الحناجر التى تشق الفضاء بصيحات التحريم والتكفير.
توسط «جمعة» مجلسه أمام حضوره، متغيرون كل مرة، تارة رجال وتارة نساء، ولا مانع من أطفال وشباب فى مراحل سنية مختلفة ومتباينة، جلس كما جلس سابقوه، لم يزد عنهم قولاً، لكن تميز عنهم فى القول، الحلال للشعراوى لن نحرمه على جمعة، ولكل منهما سبيله وقدره وأثره، وما لاقاه الشعراوى من هجوم علمانى، يلقاه جمعة من نقيضه السلفى المتطرف، هذه فاتورة الديمقراطية والحرية، وإن دفع جمعة الثمن أضعافاً مضاعفة بسبب التكنولوجيا التى أحلت إراقة الدم بضغطة زر وفى الأشهر الحرم.
من الذى صعد بك يا شيخ على المسرح، لتتلقى كل هذا الهجوم؟.. أتخيله يجيب بهدوء وشموخ غير مستغرب عليه: صمتنا كثيراً، تركنا مواقعنا لبعضهم، وبعضهم، وبعضهم، فحلوا محلنا، توغلوا فى العقول، نعلم أنه منهجهم، «الحشاشين» ليسوا النموذج الوحيد، هم قطرة غيث، التاريخ ممتلئ بالنماذج والواقع يئن بالآثار والنتائج، وبينهما أجلس وجيل كامل نبكى على لبن مسكوب، نكفر عن ما تركناه بأن نخوض معارك جديدة، الحب ليس حراماً، التعبير مكفول ومتاح، كل ممنوع له حدود للمنع، وكل متاح له سقف، هذا ديننا، نعبد الله سراً قبل علانية، قدم السر على العلانية، فلماذا نختصره فى حجاب وجلباب ولحية، الإيمان أوسع وأرحب، ونحن لا نملك مفاتيح الجنة، المفتاح فى قلبك وحدك، واستدل عليه بآراء العلماء.. العلماء.. العلماء.. وليس مطلقى اللحى، ناعمى الملمس والمسلك مثل ما نراه فى سيرة «حسن الصباح».
أى قناع ترتديه يا شيخ؟.. وأنت تحل ما حرمه الله، أيفصح الشاب للفتاة عن مشاعره، أيعقل أن نترك هذا الهاجس يجول فى أذهان أبنائنا، أى دين قال هذا، وأى شرع أباحه؟.. باسماً يجيب جمعة: نعم أرتدى قناعاً، ليس مهماً اسمه، المهم وصفه، أخلع عن نفسى صفة الشيخ، وأجلس جلسة الأب، ما الذى يضيرنى وأنا أخرج المارد من القمقم، وأن أفرج عن حبيس القلوب، ربما إذا خرج المارد للعلن فقد قوته وسطوته على النفس، أنترك صغارنا فى الوهم الكبير، ونكتفى بالتحريم، أم نفتح أبواب العقل الموصودة، ونقترب من الحدود، هذا حلال لحد، وهذا حرام اعتباراً من هذا الحد.
أتخيله يعترف بصراعاته مع القدر، مع الأشخاص، مع الزمن، القدر هو من وضعه فى هذه المساحة، والزمن هو من قذف به فى مواجهة الجهل والتغييب المتعمد، والأشخاص هم من استغلوا دينهم لأغراضهم الدنيوية.. الصراعات الثلاثة حاصرته، فشل فى الهرب منها واجتنابها لسنوات، قبل أن يقف على تبة محارب ويحمل سلاحاً فى لسانه، وينطلق يصحح الأخطاء، سأجيب على الجميع فى كل ما سألوا، لن نحجر على العقول انطلاقها، لن نقف أمام سائل، لن نتركه لمن يملأ فراغ عقله، سنحل محلهم بالمنطق والكتاب والاجتهاد. . وقبل كل هذا بـ«الله أعلى وأعلم».
كل ما سبق مجرد حوار تخيلى، ساغه لى ما تعرض له الشيخ من صعود على مسرح هجوم ضارٍ، أجبره عليه «نور الدين»، حين حطم البرنامج المذاع على قناة on تابوهات كثيرة وقفت على ألسنة السائل والموجه له السؤال، قبل أن تنهال على الشيخ الهجمات، بعضها ينطلق من جهل، وغالبيتها ينطلق من غرض يقف خلفه تنظيمات، ليقرر جمعة أن يجمع كل هؤلاء ويصعد بهم على المسرح، يواجههم ويكشف علتهم ويعرى الأقنعة التى اختفوا وراءها، لكنه صعود مشروط بالرقى، نتخاطب باللسان، بالحجة، بالقرآن، بالسنة.. أما التكفير والخوض والطعن، فمكانه «أسفل الدرك» وليس على المسرح.