المسئولون -بطبيعتهم- لا يحبون المتمردين على قراراتهم وتعليماتهم، ولا يحبذون التعامل مع الشخصيات التى تعتز بنفسها وتضع نفسها فى المقام الذى تستحقه، وترفض أن تداهن أو تتملق، أو تتحول إلى جهاز علاقات عامة، حتى تضمن موقعها ولقمة عيشها. وبعض من تعامل معهم الشيخ «محمد رفعت» داخل الإذاعة كانوا من هذا الطراز، لذلك فقد ساءت العلاقة بينه وبينهم، خصوصاً حين تمسك بحقه فى ألا يتساوى بغيره من قراء القرآن الكريم عبر أثيرها، فيما يتعلق بمسألة الأجر.
من هؤلاء سعيد باشا لطفى، أول رئيس للإذاعة المصرية، وهو شقيق أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد.
يقول «عبده فراج» زوج ابنة الشيخ رفعت: «سعيد لطفى لم يكن يحب الشيخ رفعت لأنه لا يتملق ويثق فى عون الله، وعندما أحس بحب الناس وتقديرهم لصوته وتلاوته، وشغفهم بالاستماع إليه، قال له: إياك يا شيخ رفعت أن تقارن صوتك بصوت أم كلثوم.. هى فين.. وانت فين؟.. فصوتك أشبه بطعم البلح الجاف أما صوت أم كلثوم أشبه بطعم المانجو.. فصمت الشيخ رفعت برهة ثم قال له مبتسماً: وأنا لا أطمع إلا فى أن يكون صوتى مثل التمر الذى كان يأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فاغتاظ سعيد لطفى وسكت».
لا أظن أن المسألة كانت كراهية من سعيد باشا لطفى للشيخ رفعت كما وصفها الدكتور «عبده فراج»، بل يمكن تفسيرها فى سياق طبيعة النظرية التى تحكم نظرة المسئول داخل أى موقع إلى من يعمل معه، فهو يحب منه الطاعة والالتزام والرضاء بما يقرره دون مناقشة، فما بالك إذا وجد من يتحداه، ويرفض تنفيذ قراره.
المسألة لم تتجاوز حد الغضب من جانب سعيد لطفى بسبب معاملة الشيخ له بغير الطريقة التى تعودها من الآخرين، وهى الطريقة القائمة على التسليم وعدم المناقشة، وتبدو المقارنة التى لجأ إليها سعيد لطفى أقرب إلى الدعابة، منها إلى المقارنة الموضوعية الجادة.
فأم كلثوم تغرد فى وادٍ والشيخ رفعت يلهج بالقرآن الكريم فى وادٍ آخر، ورد الشيخ على «لطفى» كان رقيقاً بقدر ما كان حاسماً، حين أعرب للباشا عن سعادته لأن يشبه صوته بالتمر الذى أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد كان الشيخ يدرك مقامه جيداً، وهو مقام مستمد من خدمته للقرآن الكريم من ناحية ومن محبة الناس من ناحية أخرى. وهو لم يتحدَّ سعيد لطفى بشكل شخصى، بل كانت المسألة مسألة مبدأ، والدليل أنه تحدى أيضاً مستر «فريكسون» المدير الإنجليزى للإذاعة الأهلية كما حكيت لك.
وقد تعمد «فريكسون» بعد أن سوّت الإذاعة الأمر مع الشيخ، أن يتجول بسيارته فى أحياء ودروب القاهرة، ويراقب الناس فى المقاهى والساحات والأندية، خلال الفترة التى تبث فيها الإذاعة على الهواء تلاوة الشيخ محمد رفعت، وقد أذهله أن يجد الناس فى كل مكان ذائبة فى الاستماع إلى القرآن بصوت الشيخ «رفعت»، منصتة إلى كل حرف يتلوه من آياته الكريمة، لحظتها أدرك «فريكسون» قيمة ومقام الشيخ، كما يحكى «محمود الخولى» فى كتابه «أصوات من نور».