فقدت محافظة سوهاج علماً من أعلامها الأزهريين الكبار، وفارساً وخطيباً وشاعراً كبيراً، هو الأستاذ الشيخ أحمد عبدالحليم القاضى، وُلد الراحل بشطورة من أعمال مركز طهطا بسوهاج فى 27 فبراير 1946م، وحصل على ليسانس اللغة العربية بجامعة الأزهر عام 1971م، وتنقّل بين عدة مناصب بالتربية والتعليم، وهو من مؤسسى الجمعية الشرعية بالقرية عام 1979م، وله كتاب: «الإسلام بين اليهودية والمسيحية»، وديوان «أنغام الضمير»، غير مطبوعين، وأشهر وأول دواوينه: «نحيب بلا جدوى»، طُبع قديماً بدار عزت خطاب للطبع والنشر.
حصل الشيخ الراحل على جائزة الشعر عام 1964م، وتسلمها من الشيخ حسن مأمون، شيخ الأزهر آنذاك، كما حصلت قصيدته: «فى سبيل الله» على المركز الأول بين شعراء الأزهر والجمهورية العربية المتحدة والعالم العربى عام 1969م، ومن قصائده: «صرخة إلى القومية»، ألقاها فى معهد سوهاج عام 1965م، وفى مهرجان الشعر بكلية اللغة العربية عام 1967م، ووردت ترجمة الفقيد فى كتاب (شطورة الماضى والحاضر)، للأستاذ زين عبدالحكم، والدكتور محمد سالمان عبيد.
تميّزت خطبُه على منبر مسجد الجمعية الشرعية بعدة ميزات:
- أنه غير مُقلد لأحد، كما يصعب تقليده.
- أنه جمع ببراعة بين العربية الفصحى والعامية غير المسفّة.
- أنه التزم وحدة الموضوع.
- وأعجب ما فى خطبه أنه ينطلق من أدنى مناسبة لخلق موضوع خطبة، دون تحضير مسبق، مستمداً خطبته ودروسه من واقع الناس وحياتهم ومشكلاتهم، مدعماً ذلك بالنصوص من القرآن والسنة الشريفة ومواقف من السيرة النبوية.
وفى السّمات العامة لخطبته ومنهجه نلاحظ:
- أنه غير مُتشدد ولا مُتزمت.
- أنه حارب التطرف وجماعات التطرف فى نحو 140 خطبة، وهذا عدد لم يحدث من قبل على المنابر.
- كانت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة فى خطبه وأشعاره وكتاباته، وعبر عن حالة العرب بأول ديوان له (نحيب بلا جدوى).. أى بكاء بلا فائدة، وتحدّث فى أشعاره عن جرائم العدو الصهيونى، وما يفعله من قتل وتخريب وتدمير للأطفال والنساء والأرض والمدارس والمستشفيات والمقدّسات.
ومن كلمات الفقيد الكبير: الفن الصادق تعبير عن الإحساس والشعور، فالشاعر حينما ينظم قصيدة ما هى إلا خوالج نفسه، خرجت على لسانه صورة شعرية لفظية، والرسّام حين يرسم لوحة معينة ما هى إلا قصيدة نفسية بعيدة المدى، عبّر بها الفنان عن مكونات لوحته، ولذلك تتآلف أرواح أهل الفن، ويلتقون على الحب الصادق، ليخلُقوا مجتمعاً خالياً من الحقد والبغض. وقال للشباب: جدّدوا وابتكروا فى إطار العروبة والأصالة، ولا تكونوا كالريشة المعلقة فى الهواء تميل مع الريح حيث مالت.
لقد كان الراحل نموذجاً لواحد من قُدامى الأزهريين الذين كانت لديهم الرؤية واضحة، وكان من الأزهريين الذين مثَّلوا صمامَ أمان فى قريته التى نشأ فيها.
فى ظل الأحداث الدامية التى تحيّرت فيها العقول، وعمّت فيها الفوضى، وسادت المفاهيم المعكوسة اضطلع الشيخ بدوره فى معالجة الأخطاء والأخطار، وتصحيح المسار، وكشف الزيف والانحراف، وصدق حسه وحدسه فى ما حذّر منه، وقام بتفنيد فكر جماعات التطرّف وبيان خطورتها.
ويمكن القول إن تناوله لهذه القضية جاء من خلال ثلاثة مسارات:
الأول: مكانة الجيش المصرى، والوقوف ضد محاولات تشويهه.
الثانى: بيان زيف فكر جماعة الإخوان.
الثالث: استعراض وقائع التاريخ لفهم تصرّفات الجماعة.
والشيخ الراحل من الذين شاركوا فى حرب أكتوبر المجيدة، ورأى الموت بعينه، وشاهد التضحيات التى قدّمها جند مصر فى هذه المعركة الكبرى، حتى حقّق الله لهم النصر، لذا فعنده حاسة لاشعورية أمام كل فكر يسىء إلى جيش مصر وجندها، الذين هم خير أجناد الأرض.
وفى يوم الأربعاء العاشر من أبريل 2024م، جاء منعاه، وانطفأت بوفاته صفحة مجيدة من صفحات العلم والوطنية، وشُيعت جنازته فى مأتم غَصَّ بآلاف المشيعين عن حسرة كاوية، وفجيعة كارثة، واكتظت الشوارع عن آخرها بالمشيعين، تسوقهم اللوعةُ الجارفة، والحزنُ الشديد، والتقدير الحار لواحد من كبار قيادات النهضة العلمية فى القرية، ومضى الركبُ إلى مثواه الأخير، وحضر جنازتَه خلقٌ لا يُحصون، لتوديع فقيد الأزهر وعالمه وخطيبه.. وسلام عليه فى الخالدين.