فى ظل التقدم التكنولوجى الهائل الذى يشهده العالم فى مجال الاتصالات أصبحت حياة الناس صفحات مكشوفة، بل أصبحت خصوصيات الأفراد مرتعاً لكل من يهوى عد الأنفاس عليهم ورصد تحركاتهم، ولم يعد أى منّا بعيداً عن تلك الممارسات الدنيئة، الجميع أصبح فى مرمى التجسس، حاكماً كان أو محكوماً، فقد شهد العالم انفلاتاً شديداً فى استخدام تقنيات حديثة تنتهك الخصوصية وتطلع على الأسرار وتفضح المستور. لقد استغل بعض ضعاف النفوس ذلك التقدم فى التنصت على الجميع واستراق السمع لمحادثاتهم الهاتفية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل وصل إلى حد لا يمكن السكوت عليه بأن عمدوا إلى تسريب ما تنصتوا عليه وسجلوه إلى بعض وسائل الإعلام التى تلقفته وأذاعته على وسائلها المختلفة غير عابئة بما سببته من آثار مدمرة على المجتمع بأسره.
والثالوث الذى نتناوله اليوم يمثل ثلاث جرائم مختلفة، لكل جريمة منها أركانها القانونية، فالتنصت على الحياة الخاصة للفرد أمر ممقوت ومنبوذ علاوة على كونه جريمة يعاقب عليها القانون وفقاً لنص المادة 309 من قانون العقوبات، كما أنه محرم دينياً إذ قال المولى عز وجل فى محكم آياته «.. وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ..» (الحجرات 12)، وقال صلى الله عليه وسلم « مَن اسْتَمَع إلى حديث قوْم يَفرّونَ منْهُ صُبّ فِى أُذنه الآنكُ يَوْمَ الْقيامة»، و«الآنك» هو الرصاص المذاب.
لذا فقد كانت توجهات الإسلام حاسمة فى تحريم هذه الأفعال البغيضة لصيانة حرمات الناس الخاصة، وحرمت بشكل قاطع التجسس عليهم، أو تتبع عوراتهم، أو انتهاك مجالسهم.
كما أن المواثيق الدولية قد عُنيت هى الأخرى بحماية تلك الحقوق إذ نهى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان عن تلك الأفعال وجرّم مرتكبيها، كما أن العهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان قد جرّما تلك الأفعال وأكدا حق الإنسان فى التمتع بسرية حياته الخاصة وحقه فى عدم انتهاك حرمتها.
والتنصت البغيض على النحو الذى أسلفناه يختلف اختلافاً كبيراً عن التسجيل والمراقبة المقررة قانوناً والتى تعد وسيلة مهمة من وسائل التحقيق القضائى، لكونها من الوسائل الأكثر فاعلية ونجاحاً فى ضبط الأدلة والوقائع الإجرامية والأعمال التحضيرية التى تسبق الفعل الإجرامى بهدف حماية المجتمع والمصلحة العامة للوطن والأمن العام، وبرغم ذلك فإنه يتم وفق ضوابط قضائية صارمة تلتزم بها الجهات القضائية ولا تلجأ إليه إلا عند استشعارها ما يهدد أمن المجتمع، لذا فقد تدخل المشرع لمنع العبث بهذا الحق، إذ جعل القاضى وحده دون النيابة العامة هو المنوط به الإذن بالتسجيل للجهة المختصة تجريه بنفسها أو من تنتدبه من مأمورى الضبط القضائى المختصين، ولا يُمنح هذا الإذن إلا بصدد جريمة تقوم الدلائل المؤكدة على ارتكاب المتهم لها وبما لا يتجاوز 30 يوماً قابلة للتجديد، كما أنه محاط بسرية تامة وكاملة، ومنبتّ الصلة عن الشخص الذى يجريه، بالإضافة إلى الضوابط التى تحمى محتوى تلك التسجيلات والحفاظ على سريتها وعدم استخدامها إلا فى حدود الإجراء الذى قُررت من أجله، فلا يمكن لمجريها أن يُطلع الغير عليها أو نشرها، بل فقط لإقامة الدليل على ارتكاب الجريمة التى رُخص له بالتسجيل من أجل ضبطها.
فإذا تم التسجيل بغير ذلك حتى لو كان مضمون المكالمة المسجلة يشكل جريمة، فإن هذا التسجيل لا يعتد به قانوناً ولا ينتج أى آثار أمام القضاء بل يعد هو والعدم سواء.
والطامة الكبرى والمصيبة العظمى تكمن فى تسريب تلك المحادثات سواء التى تمت بغير سند قانونى أو التى جرت وفقاً للقانون، لأن التسريب والنشر فى الحالتين يمثل جريمة قانونية وأخلاقية وشرعية، لكون تلك التسريبات ظاهرة مرضية أصابت البعض، وإنها وإن دلت إنما تدل على خلل فى القيم الأخلاقية لدى كل من يحاول تسريبها أو لدى من يتلقفها ويتعمد نشرها عبر وسائل الإعلام، والتى لا يجوز بأى حال من الأحوال نشرها بشكل مباشر أو غير مباشر، حتى لو كانت تلك المحادثات قد تمت فى إطار قانونى.
لقد طالت هذه الجريمة الجميع بلا استثناء، فما زلنا نتذكر ما تعرض له الرئيس الأسبق حسنى مبارك من التنصت على محادثاته الهاتفية إذ تم ذلك مرتين، واحدة عام 1995 وكان ذلك على متن الطائرة التى أقلته من أديس أبابا عقب فشل محاولة اغتياله، فقد أجرى اتصالين هاتفيين الأول مع رئيس الحكومة آنذاك الدكتور عاطف صدقى والثانى مع نجله الأكبر علاء مبارك، وأذاعت بعض محطات الإذاعة فى دول مختلفة نص المكالمة التى جرت بينهما، وأثناء حادثة «أكيلى لاورو» عام 1985 والتى كانت سبباً فى قيام السلطات الأمريكية فى تعقب مسار الطائرة المصرية المتجهة إلى الجزائر، واعتراض المقاتلات الأمريكية لها وأجبرتها على الهبوط فى إحدى القواعد الأمريكية بصقلية والقبض على من فيها.
إن تلك الممارسات القميئة طالت الجميع بلا استثناء، حاولوا من خلالها زرع الفتنة، وإضعاف الإرادة، تطاولوا على الجميع، سياسيين، ورؤساء أحزاب، ورجال أعمال، بل وصل الأمر إلى انتهاك حرمة الدولة والاعتداء السافر على محادثات بعض القيادات الوطنية المخلصة وتسريب بعض العبارات المتناثرة والتى فى مجموعها لا تنبئ عن أى أفعال تعد مخالفة للقانون، بل كانت جميعها تؤكد إخلاصهم للدولة المصرية وحرصهم على مصالح الوطن العليا.
الأمر جد خطير والسكوت عليه أخطر، أوقفوا العبث الذى طال الجميع، أضربوا بيد من حديد على كل من تسول له نفسه استراق السمع على الأفراد وانتهاك خصوصيتهم وحرمة أسرارهم.
لا بد من تفعيل ميثاق الشرف الصحفى والامتناع فوراً عن إذاعة أى تسريبات تتضمن محادثات أو مكالمات بين الأفراد أياً كان موقعهم أو وظائفهم.
لا بد من تغليظ العقوبات الجنائية المقررة لهذه الجريمة حتى يتحقق الردع العام منها، أوقفوا مخططات بعض الأجهزة المخابراتية الأجنبية المتربصة بمصر والمصريين والتى لا تستهدف سوى زعزعة الأمن القومى وزرع الفتنة بين أبناء الوطن، علينا جميعاً تعلية الصالح العام وتجنب الـ«شو» الإعلامى والسبق الصحفى، إن صالح الوطن أعلى وأسمى وأرقى من أى دوافع شخصية أو مآرب ذاتية فهى زائلة والوطن باقٍ.
وللحديث بقية ما دام فى العمر بقية.