كانت لمشروع قناة السويس الجديدة تتابعات إصلاحية وقراءات فكرية عديدة، فهو المشروع الذى تدرّج من فكرة بالتخطيط والرسومات إلى جدية بالتمويل والاكتتابات، إلى همة بالعمل والكفاح، إلى صدق بالفرحة والافتتاح، وحقيقة بالتشغيل والإنتاج فى عام واحد أو أقل بقليل. وكانت قراءتى الدينية لهذا المشروع هى بيان ترجمة المصريين العملية لتعريف الدين الصحيح الذى يجب أن يسود فهمه عند الناس كما أمر الله فى كتابه عندما قال للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين منعتهم الإدارة المكية القرشية المشركة من دخول مكة المكرمة للعمرة والصلاة فى الكعبة المشرفة عام الحديبية سنة 6هـ بزعم تخوف المشركين من احتلال المسلمين لمكة، وبالمزايدة فى هذا الزعم اشترطوا على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عدم دخول مكة عشر سنين، وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم التوقيع على هذا الشرط وشروط أخرى فيما يُعرف بصلح الحديبية لتفهمه صلى الله عليه وسلم تخوف الطرف الآخر، وإن كان بعض أصحابه صلى الله عليه وسلم كعمر بن الخطاب وغيره اعتبر بعض هذه الشروط إجحافاً وتعسفاً ورضوا بها التزاماً سياسياً بين الشعوب؛ خاصة أنها تتضمن شرطاً يفتح الطريق للحضارة الإنسانية أن تنطلق فى استقلال الإنسان فى أمر نفسه، وهو أنه «من أحب أن يدخل فى عقد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم فعل». واستمر هذا الالتزام سنتين متتاليتين حتى خالفت الإدارة المكية القرشية المشركة شرطاً من شروط الصلح عندما دخلت بنو بكر فى عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة فى عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، فاغتنمت بنو بكر هدنة العشر سنين المنصوص عليها فى صلح الحديبية وقامت بالثأر من خزاعة فى دم قديم بينهما، وأعانت قريش بنى بكر فى ثأرهم بالسلاح وبعض المقاتلين، فكان ذلك نقضاً لصلح الحديبية بما يرتب حقاً للطرف الآخر، وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أن يقاتلوا قريشاً بالسلاح والذى كانت ثمرته فتح مكة سنة 8 هـ. وفى نشوة هذا النصر الذى تمكن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مشركى مكة نزل القرآن الكريم بآيات تُتلى إلى يوم القيامة تنهى المسلمين أن تجرهم كراهيتهم القديمة وبغضهم لبعض شروط الحديبية أن يعتدوا أو أن يتجاوزوا حدود العدل فيمن تمكنوا منهم، كما تأمر المسلمين أن يتعاونوا مع كل أحد فى البر والتقوى ولو كان مشركاً، وتنهاهم أن يتعاونوا مع أى أحد فى الإثم والعدوان ولو كان موحداً؛ لأن الدين بهذا التفسير الحضارى ليس لائحة أو معاهدة تسقط بمخالفة أحد بنودها، وإنما الدين هو ما يجتمع عليه الناس مع اختلاف عقائدهم فى البر والتقوى الذى يرونه براً وتقوى، فإن اختلف الناس فى تفسير البر والتقوى فعلى كل منهم أن يحترم عقله لنفسه ويلتزم بما يراه براً وتقوى دون أن يعتدى على حق الآخر انتظاراً إلى يوم الفصل الحق فى الآخرة. وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» (المائدة: 2). وأما اختلاف الدين بين هؤلاء المتعاونين على البر والتقوى فلا يضير تعاونهم كما فعل المصريون فى قناة السويس الجديدة؛ لأن الفصل فى الدين عند الاختلاف يوم الدين وليس فى الدنيا كما قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (الحج: 17). «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» (المائدة: 105). وبهذا يبطل تفسير الدين على أنه اللائحة التى يزعم أوصياء الدين قيامهم على حمايتها وحراستها نيابة عن الله فى الأرض الذى لم يتخذ ولداً ولا شريكاً، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالإبلاغ عنه فقط دون وصاية على خلق الله فقال سبحانه: «ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ» (المائدة: 99)، وقال تعالى: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ» (الغاشية: 21-22)، وقال عز من قائل: «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهَ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا» (الأحزاب: 39)، وقال جل شأنه: «لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ» (البقرة: 272). وحتى حفظ رسالة السماء وحمايتها فإنها ليست لمخلوق مهما زعم كهنوتيته الكاذبة؛ لأن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم لم تكن من وظيفته حفظ رسالة الله التى اختصها الله تعالى لنفسه فقال سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (الحجر: 9)، فكيف بالمتقولين على الله أنهم حماة الدين وحراس العقيدة؟!
لقن المصريون العالم بافتتاح قناة السويس الجديدة درساً عملياً فى تعريف الدين الصحيح الذى توارثوه أباً عن جد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفطرهم السوية التى لم تلوثها الأفكار الشركية المفتراة من أوصياء الدين بزعمهم مسئوليتهم عن حماية الدين وحراسة العقيدة للآخرين وليس فقط عن أنفسهم، وبتقديمهم دين الله للناس على أنه سبب للصراع والتعالى بينهم وليس أداة لجمع الناس على وجه من وجوه البر والتقوى مهما اختلفت عقائدهم.
وأما التتابعات الإصلاحية لمشروع قناة السويس الجديدة فلن تنتهى بفضل الله ثم بمنافسة المصريين فى إعمار بلدهم والتى أطلقها السيد الرئيس فى حفل الافتتاح يوم الخميس 6-8-2015م عندما قال: «إن هذا الافتتاح خطوة من ألف خطوة». وقد توقعت أن يفهم المصريون، خاصة كبار المسئولين منهم، هذا القول إعلاناً رسمياً للمنافسة بينهم أيهم يأتى بالخطوة الثانية على غرار نفحات الخطوة الأولى، وانتظرت حتى قرأت يوم الخميس 13-8-2015 م فى المواقع الإخبارية تصريحاً للدكتور صلاح هلال، وزير الزراعة واستصلاح الأراضى، بأن الحكومة ستعلن قريباً عن مشروع استصلاح مليون ومائة ألف فدان، فقلت يا لها من خطوة مباركة تليق بالمرتبة الثانية بعد خطوة قناة السويس الجديدة تجعلنا على الطريق الصحيح فى تقديم فهم حقيقة الدين فهماً عملياً يحقق فينا قول الله تعالى: «هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» (هود: 61)، يعنى جعلكم عمّارها كما يقول ابن كثير فى «تفسيره»، وما أخرجه الشيخان عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة».
ويبقى السؤال المرتقب وهو أنه لو نجحت هذه الخطوة الثانية فى استصلاح المليون فدان فى مدة سنة واحدة كمدة مشروع قناة السويس الجديدة فمن صاحب الفضل فى تقديم الخطوة الثالثة على نهج تصحيح فهم الدين عملياً بالإعمار دون المزايدة بالشعارات والكلمات التى لا تزيد الإنسانية إلا فُرقة وعصبية؟