«عليه العوض ومنه العوض»، هذه العبارة هى أبسط ما يمكن أن يقال عقب الإعلان عن حادثة سرقة خزينة سك العملة المصرية والسطو على ما يقرب من 50 كيلو ذهب بالإضافة إلى سرقة عملات وأموال تزيد على 3 ملايين جنيه، فشل إدارى وحكومى ذريع، استعباط واستهبال غير متصور، إلى هذا الحد يمكن أن تُترك هذه الأماكن الهامة والحيوية دون حراسة أو مراقبة؟ ولمن لا يعرف فمصلحة سك العملة إحدى أهم الأماكن الهامة والخطيرة لدى وزارة المالية، فهى التى تقوم بسك العملات المالية المعدنية وكذا سك العملات التذكارية من المعادن الثمينة كالذهب والفضة، فضلاً عن إدارتها لمتحف العملات المصرية عبر العصور المختلفة من الفرعونى وحتى عصر أسرة محمد على، علاوة على قيامها بعمل لوحات المرور المعدنية الحديثة.
تودع بخزائنها مئات السبائك الذهبية والفضية، تقول بعض الجهات إن كمية الذهب والفضة التى كانت بالمصلحة يوم الحادث تزيد على 250 مليون جنيه، أى حوالى طن ذهب!!!
إذا طال الإهمال هذه الأماكن فما هو حال باقى الأماكن الأقل أهمية، دوواين الحكومة ودور المحاكم والنيابات، المصانع والمدارس، وحتى الأماكن الخاصة والمساكن؟ خزائن مكدس فيها الذهب والفضة تُترك بهذه الصورة الفجة دون حراسة ودون تأمين، حادث فى حقيقته فضيحة، أين كاميرات التصوير؟
يقيناً سنستمع لذات الردود المستفزة، الكاميرات ماصورتش، كم أشعر بالخجل من تصريحات المسئولين عقب الحادث، بعضهم يقول بغير حياء إن الكاميرات ماصورتش لأنها غير مجهزة للتصوير الليلى، يا سلام، كلمات مألوفة ومكررة يخرج علينا بها المسئول ليدارى سوءته. واضح أن الجهات الحكومية تضع منظومة المراقبة والتصوير من باب الديكور لأنها فى الغالب لا تعمل وإن كانت تعمل فلا يمكن الاستدلال بمحتواها على شىء.
تلك الجريمة إن دلت إنما تدل على رعونة وإهمال يصل إلى حد الفوضى فى مؤسساتنا الحكومية الهامة، لم ننسَ واقعة سرقة مطبعة البنك المركزى، ما زالت عالقة فى الأذهان، وأيضاً ردد المسئولون ذات العبارات المستفزة، يعتقدون أن هذه المبررات يمكن أن تقنع البعض. لكن، وللأسف، لم يعد هناك من يصدق أو يثق فيما يقال، الناس لم تعد غافلة، تلك الحوادث المتكررة لهذه الأماكن الهامة جداً إنما ترسخ لفكرة أن «المال السايب يعلم السرقة»، يقيناً هذا المثل الشعبى السائد بين المصريين ينطبق تمام الانطباق على ما تتعرض له تلك الخزائن الحكومية من سطو ونهب وسرقة وإهمال وتراخ وفوضى تؤدى حتماً إلى خلق مناخ يساعد على السرقة بسهوله ويسر. تحولت المشاهد التى كنا نراها فى الأفلام الأمريكية والمسلسلات العربية إلى واقع نعيشه ونراه يومياً، كنا نعتقد عندما نرى تلك الأفلام السينمائية أنها «كلام أفلام»!! غير مصدقين تلك الأمور، بل كنا متأكدين من استحالة حدوثها فى الواقع العملى، والآن نرى تلك الأفلام حقيقة داخل مؤسسات الدولة الهامة، تُرى رؤية عين داخل أماكن هى فى الأصل مؤتمنة على أموال الشعب والدولة.
والذى يزيد الطين بلة أن «حاميها حراميها»، كل مرة يتضح أن الفاعل هم مجموعة من العاملين داخل المكان، هم المنوط بهم حمايته والمحافظة على ما به، لكن للأسف يقويهم الإهمال ويساعدهم ضعف المنظومة الأمنية ويشجعهم ترك تلك الأماكن وكأنها بلا صاحب، نعم يتم ضبط البعض منهم كما يتم العثور على ما تبقى من المسروقات، الأمر فى حقيقته ليس حادث سرقة، فحوادث السرقة منتشره فى كل العالم، لكن المشكلة الحقيقية تتمثل فى تجرُّؤ هؤلاء على تلك الأماكن السيادية، الحديث عن سرقة شقة أو محل يمكن تقبله، لكن سرقة البنك المركزى أو مصلحة سك العملة وما بها من سبائك ذهبية أمر لا يتصوره أو يقبله العقل، الأمر فيما يحدث سببه الأوحد ذلك الإهمال الحكومى والفشل المؤسسى فى حماية خزائن الدولة، وللأسف الشديد أن أحداً لن يستوعب الدرس، عقب كل حادثة ينبرى القائمون على المكان باختلاق التصريحات، وأنه سيتم اتخاذ إجراءات الحماية والمراقبة وسوف وسوف وسوف.. إلخ، إلى أن تهدأ الأمور وينسى الجميع ما حدث لنصحو مجدداً على حادثة أخطر وأهم من سابقتها، وهكذا.
من لم يتعلم من ماضيه لن يرحمه مستقبله، آفة النسيان تقتل التخطيط الصحيح للمستقبل، ما الفائدة من حوادث وقعت ولم نأخذ بتلابيب عدم تكرارها، ما الفائدة من دروس لم يتم استيعابها، وأخطاء تُعاد مراراً وتكراراً، التاريخ يعيد نفسه فى كل حادثة، يعيد نفسه فى المرة الأولى كمأساة وفى المرة الثانية كمهزلة كما قال «ماركس»، من لم يتعلم من الصفعة الأولى يستحقها مجدداً، الوقوف على أخطاء الماضى والتفكير فيها بصورة عقلانية للاسفادة منها وعدم تكرارها ومنع حدوثها أمر ضرورى للوصول إلى النجاح، أوقن أننا لسنا فى حاجة لمعرفة الأخطاء التى وقعنا فيها والتى أدت إلى حدوث تلك الكوارث وتكرارها بقدر حاجتنا إلى الاستفادة منها، وإلا ما الفائدة من معرفتنا للأخطاء دون تصحيحها وتحويلها إلى نجاحات ومكاسب.
إن الاستمرار فى ظاهرة «التبرير» وإسقاط اللوم على الآخرين لتبرئة الذات أصبح يمثل آفة داخل الهيئات والمصالح الحكومية عندما تقع بإحداها حادثة أو مصيبة، كل واحد يتبرأ منها ويدفعها نحو الآخر، مستخدماً فى ذلك أعذاراً واهية، يشعر معها المتلقى بأن ذلك المسئول فاشل ومستمر فى الفشل، وغير راغب فى إصلاح مؤسسته أو حتى ذاته، فمن السهل أن يجد الإنسان عذراً لتغطية أخطائه وعجزه وفشله، لكنه بذلك سوف يستمر فيه. لا بد من الوقوف، وبأقصى سرعة، على أسباب ذلك الفشل الحكومى فى حماية مقدرات وأموال وخزائن الدولة حتى لا يستمرئ الجميع الأمر وتصبح رغبة البعض فى انتهاك حرمات تلك الأماكن واستسهال العبث بها والسطو عليها أمراً يسيراً لا رادع له.
لابد من وقفة صارمة الآن وليس غداً لأنه من غير المقبول أن نتعامل جميعاً مع تلك الظاهرة بـ«اللامبالاة» والتى ستؤدى حتماً إلى مزيد من الكوارث التى تنال من هيبة المؤسسات والهيئات الهامة فى الدولة وتجعلها طيّعة لكل من تسول له نفسه انتهاكها أو السطو عليها مما يفقد الأمل لدى الجميع فى الإصلاح ونصحو كل يوم على فاجعة جديدة تزداد بها ومعها حسرتنا على ما نحن فيه.
وللحديث بقية ما دام فى العمر بقية.