كنا أطفالاً فى المدارس يوم العبور العظيم. لا يستطيع أن يتفهم الأحاسيس التى كانت تتسكع فى وجدان المصريين، يومئذ، سوى من عاش الفترة التى أعقبت نكسة 1967، كان إحساس الناس بالحياة نكداً، والمرارة ترعى فى حلوقهم، والإحباط يسيطر على نظرتهم للحياة، وجلد الذات يسيطر على نكاتهم، لكن كل هذه الأمور كانت شاهداً على رفض الهزيمة، وعدم التسليم باحتلال إسرائيل لسيناء. المصرى لا يستطيع أن ينام هانئاً إذا سلب منه حق، قد يبدو ضعيفاً وساخراً وجالداً لذاته وهو يتحدث عن الحق الضائع، لكن قوته تكمن فى هذا الضعف المصطنع الذى يفتعله، كنوع من المناورة على عدوه، حتى يستنيم ويرتاح إلى فكرة أن المصرى لن ينتفض لاسترداد حقه المسلوب، وفجأة تجده قاطعاً كالسيف فى طلب الحقوق.
نصر أكتوبر هو أعظم حدث عاشه المصريون على مدار العقود الخمسة الأخيرة. وجوهر العظمة يرتبط بعدة وجوه، أولها أنه أثبت أن المصرى «يستطيع إن أراد»، كذلك كان يحدث الشاعر أمل دنقل قارئيه قائلاً: «ليس سوى أن تريد.. أنت فارس هذا الزمان الوحيد.. وسواك المسوخ»، كان «أمل» يعبر من خلال هذه السطور عن زفرة أسى نفثها فى وجه من رغبوا فى تجريد هذا الشعب من إرادته، تسلح المصريون يوم السادس من أكتوبر، أول ما تسلحوا، بـ«الإرادة» وبـ«الثقة بالنفس»، تلك هى الأسلحة الحقيقية التى انتصر بها المصريون. فبمقاييس القدرات العسكرية ومستوى التسليح، كان الإسرائيليون يتفوقون من عدة وجوه، لكنهم كانوا يفتقرون إلى ما رفع هامة الجيل الذى حارب فى أكتوبر، الجيل الذى استولد النصر من أضلع المستحيل، كانت تعوزهم الإرادة والثقة بالنفس، ويهدهم التوسع والعدوان على أراضى الغير، وبناء دول على أجساد البشر، ولو كان العرب استوعبوا هذا الدرس، لما لعبت بهم إسرائيل، كما تلعب فى الظرف المعيش.
الوجه الثانى للعظمة فى نصر أكتوبر يتعلق بفكر سياسى وعسكرى اعتمد على الدفع بـ«الكفاءات»، والابتعاد عن فكر «الولاءات»، عند اختيار الأشخاص الذين اضطلعوا بمهام العبور، فالقائد الذى استمع إلى أحد الضباط الاحتياط الذى اقترح عليه استخدام مضخات المياه فى هدم خط بارليف كان عقلاً يبحث عن الكفاءة. وأى دولاب عمل يرتكن إلى هذا المبدأ فى الاختيار وتوزيع الأدوار لا بد أن يحقق أهدافه بمنتهى السلاسة واليسر، فمع حضور الكفاءة يبدو الصعب سهلاً، بل يبدو المستحيل ممكناً. ولو أن المصريين استوعبوا هذا الدرس فقط بعد نصر أكتوبر لصار حالهم إلى غير الحال التى يحيون فى ظلالها الآن، لكننا للأسف شعب يعيش بذاكرة مثقوبة.
التخطيط الدقيق كان وجهاً ثالثاً للعظمة فى الحرب المجيدة، فقد اعتمد الصانع الأول لقرار الحرب، الرئيس أنور السادات، ومساعدوه، على وضع خطة دقيقة، محددة الأهداف والمراحل، تعتمد على رؤية واقعية لظروف المعركة، وأصر «السادات» على التوقف عند تحقيق الأهداف التى تغياها من العبور، رغم لوم واتهام المحيطين به، أولئك الذين لم يستوعبوا أن لكل خطوة حساباتها، وأن حسابات الخطوة يجب ألا ترتكز على مجرد الحماس، بل على تقدير جيد للموقف، ولو تعلم المصريون الذين ثاروا فى يناير هذا الدرس، لانتهوا إلى نهاية مغايرة تماماً لما نعيشه الآن.. من كان له أذنان للسمع فليسمع!