إذا كنت من هؤلاء الذين يهتمون بمتابعة وسائل الإعلام الإقليمية والدولية النافذة، فلعلك لاحظت أن التدخل العسكرى الروسى الراهن فى سوريا بات يستأثر بمعظم الاهتمام فى هذه الوسائل.
وباسثناء وسائل الإعلام الروسية، وهى قليلة ومحدودة الانتشار، وبعض وسائل الإعلام الإقليمية التى تناصر النظام السورى وإيران و«حزب الله»، وهى باهتة وضعيفة التأثير، فإن طوفاناً من الانتقادات والتشكيك يهيمن على المعالجات الإعلامية الأخرى.
تنقسم تلك المعالجات المناوئة للسياسة الروسية تجاه سوريا إلى قسمين رئيسيين؛ أحدهما يهاجم التدخل الروسى بشدة، ويصفه بأبشع الأوصاف، وثانيهما يحرض ضده، ويشكك فى مقاصده، ويتوقع فشله.
وفى خضم هذه المعالجات الأحادية دائماً والمغرضة غالباً، تغيب التحليلات الموضوعية، وبالتالى يغرق الجمهور فى أوهام، وينحرف عن الحقيقة.
والواقع أن التدخل الروسى فى سوريا ليس محكوماً بالفشل والتخبط كما يرى كثيرون، أو يريدون لنا أن نرى ذلك.
سوريا ليست مستنقعاً أفغانياً جديداً سيتورط فيه الروس لأسباب عديدة؛ أولها أن الدول العربية والإسلامية المتحالفة مع واشنطن لن تكون قادرة على «فتح باب الجهاد» مرة أخرى كما فعلت فى الثمانينات والتسعينات الفائتة، لأنها لن تكون قادرة على دفع أثمان ذلك «الجهاد» عندما يعود «المجاهدون» إلى بلادهم ويمارسون الإرهاب. كما أن تلك الدول لن تكون أيضاً قادرة على مديح «داعش»، أو التخلى عن وصفها بأنها «إرهابية» و«معادية للإنسانية» للكيد للروس. ومن بين تلك الأسباب أيضاً أن الروس قد تعلموا ما يكفى من الدرس الأفغانى، وأن ثمة قوى صلبة ستقاتل إلى جانبهم على الأرض، وأن تنسيقاً مكثفاً قد جرى، ويجرى، مع فرقاء آخرين مثل الإسرائيليين والأتراك وقبلهم الأمريكان، لتفادى التقاطع والتضارب الميدانى غير المرغوب فيه.
يعد توقع الفشل الروسى هذه المرة «تفكيراً بالتمنى» وليس تحليلاً مستنداً إلى براهين وأدلة.
ليس بوسع أحد تقييم مدى نجاح التدخل الروسى فى سوريا أكثر من الروس أنفسهم؛ فهم من اتخذ القرار، وهم من أرسل القوات، وهم من سدد الضربات، وهم من أجرى التنسيق.
يتصل هذا إذن بمحاولة «تعريف النصر» من وجهة النظر الروسية بخصوص العملية العسكرية فى سوريا.
لا يرى الروس النصر فى إعادة إنتاج نظام بشار الأسد، وتثبيته، وفرض هيمنته على كامل التراب السورى، ولا يرونه أيضاً فى هزيمة جميع القوى التى تقاتل ضد بشار، وبالطبع لن يكون هذا النصر توطيداً لوجود إيران و«حزب الله» فى الأراضى السورية.
لا يريد الروس من هذه الحرب هزيمة واشنطن أو «القوات المسلحة لسوريا الجديدة» التى تقوم بتدريبها، ولا إقصاء التدخلات التركية، ولا هزيمة المشروع العربى (السعودى - القطرى - الإماراتى)، الرامى إلى إزاحة بشار، وضرب النفوذ «الفارسى/الصفوى» فى منطقة الهلال الخصيب.
تعريف روسيا للنصر يتصل بالحفاظ على مصالحها، وإعادة التمركز فى المنطقة بأدوات صلبة يمكن لها أن تحظى بالاستدامة.
ستكون روسيا منتصرة عندما يتم اعتبارها طرفاً رئيسياً فى كل ما يجرى بشأن سوريا، وعندما يصعب جداً تجاوزها فى أى ترتيبات تخص مستقبل هذا البلد. لقد ساندت روسيا بشار الأسد فى جميع المفاصل المهمة التى تعلقت بأدوار مجلس الأمن الدولى أو الأمم المتحدة أو التحالفات الدولية والإقليمية، كما بذلت له الدعم بلا سقف لكى تستديم قدرته على المقاومة والبقاء، لكن أهدافها الاستراتيجية تتجاوز بشار الأسد، لأنها تتعلق بدورها ومصالحها وصورتها المبتغاة كـ«قوة عظمى».
ليس لدى روسيا ترف أن تغرق فى مستنقع أفغانى جديد، أو أن تخسر تلك الحرب، لأن تلك الخسارة معناها ارتدادات غاية فى السلبية على صورتها الدولية والإقليمية، وعلى مصالحها فى أوكرانيا وجورجيا والقرم، وعلى قدرتها على صد الاستهدافات الإرهابية فى بطنها الرخوة، وعلى مستقبل سياساتها الدولية.
لذلك، فإن روسيا ستنفذ أجندتها، وستأتى لها الأطراف المعنية، وستحرص على أن تتوصل معها إلى ترتيبات تراعى مصالحها.
وفى غضون ذلك، ستتعزز الحملة على «داعش»، وسيتلقى الإرهاب ضربات مؤثرة، وسيمكن الحديث عن سوريا واحدة وحكومة تضمن لها التكامل الإقليمى.
سيكسب الإيرانيون من هذا التدخل، وستتعزز مصالح «حزب الله»، وسيكون من الصعب الإطاحة بـ«بشار»، وتلك كلها تكاليف سيتم دفعها، فى مقابل الأهداف التى سيحققها التدخل الروسى.