ذهلت وأنا أتابع قضية مصطفى الصاوى. وطريقة تعاملنا معها. وأصل الحكاية أن مصطفى الصاوى فى السابعة عشرة من عمره. من قرية محلة الدمنة، التى تبعد عشرة كيلومترات عن المنصورة. والده يعمل فى شركة دعاية وإعلان فى دبى. يعيش مع أمه. والشاب بدت عليه علامات الذكاء وربما العبقرية فى شئون البحث العلمى. بل والاختراعات.
الحكاية طويلة. وشديدة المرارة. لكن الشاب توصل لاختراع عنوانه: السد العربى الذكى الذى يمكن استخدامه فى توليد الكهرباء. من خلال عملية دمج ثلاثة مصادر للطاقة المتجددة. بحيث تصل طاقة التوليد لنحو 23.1 جيجاوات فى الساعة.
احتار باختراعه. لفّ ودار. تردد على جامعة المنصورة. وجامعة بنى سويف. ولأن طلاب الجامعات التى ذهب إليها وصفوه بالدكتور الصغير. فقد تعرض لحالة من العداء من قبل الدكاترة الكبار. لأنهم اعتبروا أن وصفه بالدكتور عدوان عليهم.
وصل الأمر لحصوله على جنسية الإمارات العربية المتحدة. لكى يتقدم لإحدى المسابقات العالمية. وفاز بها. وارتدى الزى الإماراتى ورفع العلم الإماراتى. وهنا قامت القيامة وبدأ الأمر عبر التواصل الاجتماعى. رغم أن الأبطال الأساسيين فيها من الشباب. وكنت أتصور تعاطفهم مع شاب مثلهم. استطاع أن ينجز هذا الإنجاز. لكنهم أجمعوا على اتهامه بالخيانة العظمى. لأنه قَبِل جنسية الإمارات حتى يتقدم لمسابقة عالمية تعترف بنبوغه وعبقريته.
حدث هذا على الرغم من أن الشاب قال بوضوح إنه لن يتنازل عن الجنسية المصرية. وسيحتفظ بها. بل ورفض منحاً من بعض الدول - مثل أستراليا وغيرها - التى تشترط قوانينها أن يتنازل عن الجنسية المصرية قبل الحصول عليها. وأنه سيعود لمصر بعد تحقيق ما يحلم بتحقيقه. لم يتوقف الأمر عند التواصل الاجتماعى. ولكنه وصل للإعلام. فكم من كتابة تسللت لصفحات صحفنا تتهم الشاب بالخيانة. بمجرد أنه قَبِل جنسية الإمارات.
فى سياق تناول الموضوع بقدر من الحياد والموضوعية - مع أنه فى إطار تناول علاقة الإنسان بوطنه وارتباطه ببلده لا حياد ولا موضوعية - دعونى أكتب حول أمرين. الأول: أن مصطفى الصاوى طرق أبواب مصر. وذهب إلى الأماكن التى يمكن أن تساعده. وحاول السعى لأن تقف مصر بجواره، ولم يجد غير النكران. ومصدرى فى هذا الكلام ما قاله مصطفى وقالته أمه أمل سامى لمحمد أبوضيف (معايشة وكتابة)، وسمير وحيد (تصوير) بجريدة «الوطن» فى تحقيق يصل لحدود المثال فى إجراء التحقيق الصحفى. وهو ما تفتقده صحافتنا المصرية الآن.
الأمر الثانى: أن لدينا فى مصر 86 ألف عالم مصرى. تعلموا فى مصر. ثم هجروها وتركوها وحصلوا على جنسيات أجنبية. وأصبحوا يعامَلون كأجانب. والعدد الكبير منهم ذهب إلى أمريكا. أحدهم حصل على جائزة نوبل فى أواخر القرن الماضى. وقالت لجنة نوبل فى وصفه بأنه مواطن أمريكى ينتمى لأصول مصرية. ومع هذا رحبنا به وصفقنا له وحسبنا نوبل التى حصل عليها فى إطار النوابل التى كانت من نصيب مصر. ولم يجرؤ أحد يومها على أن يقول إنه غير مصرى. وإنه حاصل على الجنسية الأمريكية.
موضوع مصطفى الصاوى. كنت أتصور أن يثير لدينا قضية مهمة. سمَّاها من قبل الدكتور نادر الفرجانى: هدر الإمكانية. فالشاب الذى يتعلم فى مصر ويتخرج فى الجامعات المصرية. ثم يهاجر للخارج. وبحسبة بسيطة نكتشف أن مصر قدمت للدولة التى هاجر إليها مبلغاً من المال لا يقل عن مائة ألف دولار. هذا مع يقينى أن البشر لا يمكن أن يحسبوا بأرقام الأموال مهما كانت.
إن كنا جادين فى تناول الأمر. فتعالوا إلى كلمة سواء. لماذا أصبحت بلادنا طاردة لأبنائها؟ لماذا يجدون خارج مصر ما لا يجدونه فى مصر؟ منذ متى ومصر توشك أن تصبح مثل القطة العجوز التى تأكل أبناءها بلا رحمة؟.
ما كنت أتمنى لمصطفى أن يهجر مصر وهو فى السابعة عشرة من عمره. ولكنه لم يذهب إلى العدو الإسرائيلى. ولم يبعد عنا كثيراً. فالإمارات العربية دولة شقيقة وشعب شقيق قدَّم له ما لم تقدمه له بلده. فما الذى يمنع أن يذهب إلى هناك؟.
احترت من متابعة الموضوع. وسألت نفسى: من الذى أوصلنا إلى المربع الأخير؟ الطموح الزائد لدى هذا الشاب؟ أم المجتمع الطارد عندنا لكل موهبة واعدة يمكن أن تسبح ضد التيار؟ أو أن تسلك طريقاً مغايراً ومختلفاً عن الطريق المرسوم لكل إنسان.
كانت لدينا وزارة للمصريين المهاجرين فى الخارج. واستعيدت الوزارة مؤخراً. بعد أن تم سلخها عن وزارة القوى العاملة. وتولتها وزيرة شابة هى الدكتورة نبيلة مكرم. أذكر هذا لأن موضوع مصطفى الصاوى لا بد أن يجعلنا نتناول الأمر بقدر أكبر من الحفاظ على حقوق المصريين والحنو عليهم حتى وإن هاجروا وتركوها.
لم يكن مطلوباً من مصطفى الصاوى أن يدفن نفسه فى مصر. ويتحول إلى شخصية محبطة. لا يجد أمامه سوى المقهى ليجلس عليه. ومن المقهى يصطاده المتطرفون والإرهابيون. ويجعلونه جزءاً منه مستغلين حالة الحزن والإحباط التى تنتابه بسبب موقف المجتمع المصرى منه.
أيضاً إلى متى سنتعامل مع طيور مصر المهاجرة للخارج باعتبارهم كانوا منا. والآن انسلخوا عنا. وأصبحوا أجزاء من مجتمعات أخرى وجدوا أنفسهم فيها. ومُنحوا فى ظلالها الفرص التى حرموا منها فى مصر.
ألا نفكر فى استعادة من هاجر من المصريين أو ربطه بالوطن إن كانت استعادته مستحيلة؟