مرت مؤخراً ذكرى ميلاد كامل الشناوى، وأيضاً ذكرى رحيله علينا، دون أن نتوقف عندها طويلاً، لا أقول إن هذا أمر يخص كامل الشناوى وحده، ولكنه يحدث للكثيرين غيره، فيبدو أن مصر مُتخمة بالموهوبين من أبنائها، وُلد كامل الشناوى فى 7/12/1908 ورحل عن عالمنا فى 30/11/1965، أى أنه رحل صغيراً، بل ربما شاباً فى السابعة والخمسين من عمره.
لكامل الشناوى كتاب جميل عنوانه: عرفت عبد الوهاب، وفى هذا الكتاب يحكى كيف تعرف على شوقى وعبد الوهاب، ومن المؤكد أن هناك حكايات كثيرة تدور فى المسافة بين شوقى وعبد الوهاب، بعضها حسن وربما كان بعضها الآخر سيئاً، لكنه تاريخنا الفنى والأدبى الذى لا بد أن نتوقف أمامه بين الحين والآخر.
يحكى كامل الشناوى أنه فى شهر يناير عام 1931 عرف محمد عبد الوهاب، ويعترف أن «عبدالوهاب» كان شاباً صغيراً يردد الناس اسمه بحماسة وانفعال، وأن فريقاً من الناس يرفعه إلى القمة وفريقاً آخر يلقى به فى الهاوية، ولم يحدث أن وضعه أحد فى مكان يتوسط القمة والهاوية، فالفنان ليس له وسط، إما فوق وإما تحت. والفنانون جمهورهم فنان مثلهم، يسخط بعنف، ويرضى بعنف، ولا يقبل أن يتخذ له موقفاً وسطاً بين السخط والرضى!.
وكانت أغلبية المتحمسين لـ«عبدالوهاب» تتألف من الأطفال والفتيات والشباب، ويعترف بأنه كان من هؤلاء المتحمسين، مع أنه لم يكن طفلاً، ولم يكن فتاة بطبيعة الحال، ولكنه كان شاباً فى حدود العشرين.
ويؤكد أن آباءهم، وأساتذتهم، وأصدقاءهم والأكبر منهم سناً كانوا لا يعترفون إلا بمطرب واحد هو صالح عبدالحى، ويسخرون من مواعة أغانى عبداللطيف البنا، ويهزأون ممن يتحدثون عن حامد مرسى، وكان هذا المطرب نجماً متألقاً فى المسارح الغنائية، وقد فتن الكثيرات بجماله وأناقته.
وعندما ظهر عبدالوهاب سخر منه المعجبون بصالح عبدالحى، ولكنه استطاع أن يجعل طائفة كبيرة منهم تتحول من إعجابها بالمطرب القديم إلى إعجاب بالمطرب الجديد، وعرف كيف يأخذ من حامد مرسى كل جمهوره من المفتونات، فقد طغت رشاقة عبدالوهاب ووسامته على ما امتاز به الشيخ حامد مرسى من رشاقة ووسامة!
وكان معروفاً أن الذى شق الطريق للموهبة الصوتية الناشئة هو أمير الشعراء أحمد شوقى، وكان هذا سبباً كافياً لإقناع الناس بأن عبدالوهاب قيمة فنية أصيلة، ويكتب كامل الشناوى أنه كان يحب شوقى الشاعر العبقرى العظيم. كان شعره ينبض فى قلبه، وفى ذهنه، لذلك منحه ثقة ليس لها حدود، يستهوى ما يستهويه، ويرفض ما يرفضه!.
وفى يوم من أيام شهر يناير من سنة 1931 عرف كامل الشناوى شوقى.،كان قد قرأ له قصيدة منشورة فى جريدة «البلاغ الأسبوعى» وأبدى للمغفور له عبدالقادر حمزة صاحب «البلاغ» إعجابه بالقصيدة، وسأل عن صاحبها، فأخبره الأستاذ عبدالقادر أنه لم يقرأ القصيدة، ولا يعرف صاحبها. وكان الأستاذ الكبير إبراهيم المصرى هو الذى يتولى الإشراف على «البلاغ الأسبوعى»، الملحق الأدبى لجريدة البلاغ اليومية السياسية، فسأله الأستاذ عبدالقادر عنى وأخبره بأن شوقى يريد أن يراه، وأبلغه إبراهيم المصرى بالنبأ، فطار من الفرح، وتشاور مع أصدقائه فى الطريقة التى يقدم بها نفسه لـ«شوقى».
واتفق على أن يزور الأستاذ زكى طليمات فى مسرح الأزبكية ظهراً، ليحضر تجارب التمثيلية التى يتولى إخراجها، ولعلهم يجدون «شوقى» هناك، فقد كان مولعاً بحضور التجارب فى المسارح، وخاصة تجارب تمثيلياته.
وذهبوا إلى مسرح الأزبكية، ووجدوا «زكى» يودع رجلاً قصير القامة، يعلو رأسه طربوش أحمر غامق، وحول رقبته كوفية، وقد انسدل على قوامه معطف طويل واسع، وعيناه تترجرجان كالزئبق. كان هذا الرجل هو أحمد شوقى أمير الشعراء.
ووقفوا مكانهم، فدنا منهم وصافحهم وقدمهم إلى «شوقى»، لم يكد يسمع اسمه حتى ضحك وقال:
- إن من يقرأ قصيدتك الأخيرة يتصورك شاباً نحيلاً ذائباً فى الحب والهيام... ما شاء الله... وزنك كم كيلو؟.
يروى كامل الشناوى الموقف:
فقلت: 150.
قال: وكم سنك؟
قلت: 20 بلا مائة!
فضحك وأخذ يسألنى عمن أحبهم من الشعراء، فذكرت قائمة طويلة بينها أحمد شوقى.
فقال: هل تحفظ شيئاً من شعرى؟
قلت: أحفظ كل شعرك!
وطلب منى أن أنشده قصيدة «أبوالهول»، ولما سمعها أبدى إعجابه بطريقة أدائى للشعر، ودعانى إلى تناول طعام الغداء معه فى داره «كرمة ابن هانئ» بالجيزة، وقبلت الدعوة شاكراً، واستأذنت من أصدقائى، وتركتهم هم والأستاذ زكى طليمات، وركبت مع «شوقى» سيارته، ووجدت سائق السيارة يتجه إلى العباسية، فسألت بصوت مسموع إلى أين نحن ذاهبون؟.
فقال «شوقى»: سنمر على «محمد» فى بيته لنأخذه معنا.
قلت مستفسراً: تعنى محمد عبدالوهاب؟
فقال: نعم، هل تعرفه؟
- أسمع عنه فقط.
قال: هل يعجبك صوته؟
- يعجبنى جداً.
قال: أنت إذن صاحب ذوق سليم!
ووصلا إلى دار عبدالوهاب بالعباسية، وكان يسكن بيتاً مستقلاً يتكون من بدروم وسلاملك وطابق علوى، وقد خصص هذا الطابق لأسرته المكونة من والدته وإخوته، وشغل هو السلاملك الذى يحتوى على حمام، وغرفة نوم ومدخل فسيح، وقاعة لاستقبال الضيوف عريضة طويلة، ازدحمت فيها الأرائك والمقاعد والأبسطة وأهل البيت من آل عبدالوهاب.
وخرج «عبدالوهاب» من غرفة نومه ليستقبلهما، وكان يرتدى «البيجاما»، ومن فوقها «روب»، وحول رقبته «كوفية»، وعلى كتفه «فوطة»، والنظارة سميكة -كما هى الآن- فوق عينيه!.
وقدمه «شوقى» إليه باسم الأديب «مصطفى كامل الشناوى» فهذا هو اسمى بالكامل!.
وهكذا عرفت شوقى وعبدالوهاب فى يوم واحد.
كامل الشناوى حكاية تجسد زمناً جميلاً لا نملك سوى أن نتحسر عليه، ظلمته قصصه الشخصية وصرفتنا عن قراءة نتاجه الشعرى. والتمعن فى تجربته الصحفية والشعرية، وأذكر فى ستينات القرن الماضى أن كل ما عرفناه عن كامل الشناوى -أو معظمه- أنه أحب مطربة من طرف واحد، وأن هذا الحب دفعه لكتابة قصيدة «لا تكذبى»، وكنا نخمن مَن هى هذه المطربة؟.
فى كل زمان ومكان نجد فى مصر العالمين ببواطن الأمور، وهؤلاء تباروا وأكدوا أن المطربة كانت نجاة الصغيرة، وأن أحد الأدباء المعاصرين قال إنه هو الذى كان معها، كان هذا الأديب هو يوسف إدريس.