■ شرُفت بحضورى احتفالات الكنيسة المصرية بأعياد عيد الميلاد المجيد للمسيح عليه السلام. ذهبت بصحبة الأخ والصديق المهندس هانى عازر الذى بادرنى بالقول أثناء دخولنا الكاتدرائية: «فاجأنا الرئيس العام الماضى بالمجىء للتهنئة، ليس من المعقول أن يكررها هذا العام». فوجدتنى أجيبه: «كانت مفاجأة فى العام الماضى، وستكون عادة هذا العام». قلتها دون معرفة منى بحضور الرئيس ولكننى تمنيت أن يأتى لتصبح عادة سنوية تمنح آمال المواطنة الحقة لكل المصريين، وتجمد الجهل فى عروق المتعصبين بمعانى أخوتنا على الأرض وفى الإنسانية وانتمائنا الواحد لله. وجاء الرئيس لتبكى العيون فرحة بفرحة الأحبة وتبتهل القلوب بالدعاء لتحيا مصر آمنة.
■ استمعت لكلمات الرئيس عن سُنة اختلافنا وسرحت بخاطرى لأتذكر «مير ليليانا»، مديرة مدرسة الراهبات الفرنسيسكانيات بدمنهور، حيث نشأت وتعلمت. ودق على خاطرى ذلك الموقف الذى منحنى الفهم الحقيقى للتدين والتواصل الدائم مع الإنسانية، حين سخرت زميلتى فى الدراسة بالصف الرابع الابتدائى «مارى أسعد» من استخدامى للعبارة القرآنية «أخضر واستبرق» فى أحد مواضيع التعبير. فما كان منى إلا أن لطمتها على وجهها معتبرة ما فعلت إهانة لا تُغتفر لدينى. فذهبت مارى لتشكونى للأم ليليانا، التى كانت قادرة على بث الخوف فى نفوسنا من مجرد ذكر اسمها، فما بالك بمواجهتها؟! نادتنى السيدة الفاضلة بإشارة حاسمة من وجهها فذهبت وأنا أنذر ذاتى بما لم أره فى حياتى، ولكننى وجدتها تطلب منى أن أقص عليها ما حدث، فحكيته لها تماماً وكان هو نفس ما قالته لها مارى. فأمسكت بكتفينا أنا وزميلتى وأمرت مارى بالاعتذار لى وتقبيلى لأنها لم تحترم ثقافة الآخر واستهزأت بجهل بما لا تعلم، ثم أمرتنى بالاعتذار لمارى لأننى لم أعبّر عن غضبى منها برقى ولم أرد عليها بحجة. ثم قالت: «احنا على الأرض اخوات وربنا واحد فى السما. حبوا بعض واحموا بعض». من يومها تعلمت درس حياتى وحكمة أن لو شاء ربك لخلقنا جميعاً متشابهين ولكنه خلقنا مختلفين فى الحياة وهو من يملك الفصل بيننا يوم الدين فيما كنا فيه نختلف.
■ أعود من ذكرياتى لكلمات الرئيس متحدثاً عن قبول الآخر ورفض التمييز أياً كان، فتجرجرنى الذاكرة مجدداً لمدرستى «الراهبات» حينما شب وعيُنا فى المدرسة على «نيفين» زميلتنا المسيحية التى كانت تعانى من إعاقة ذهنية كانت غامضة بالنسبة لنا فى وقتها، فلا إعلام يتحدث، ولا معلومات توضح ما بها. ولكن إصرار «الأم ليليانا» على أن تتولى واحدة من البنات كل عام فى الفصل رعاية نيفين وتهذيبها وتعليمها بما نتحصل عليه من دروس ومساعدتها فيما تحتاج إليه ونحن بعدُ لم نتجاوز السابعة من العمر، فتعلمنا بالسليقة أن الحياة فيها آخر غيرنا علينا منحه سعة التفهم والرعاية والاحتضان، وتعلمنا أن ننظر فى الحياة لنعلم عطاء الله فينا وفيمن حولنا. ظللنا نرعى نيفين التى تعهّدت المدرسة بتعليمها مبادئ القراءة والكتابة والمحاولة معها إلى أقصى مدى يمكنها استيعابه. وما زلت أتذكر نيفين.
■ تعيدنى كلمات الرئيس الباسمة بحب لإخوتى فى الوطن معتذراً عن تأخرنا فى إعادة كنائسنا لما كانت عليه قبل هجوم الإرهاب الغاشم عليها، واعداً أن يزورنا العيد المقبل وكنائس إخوتى وبيوتهم عامرة. تنزلق دمعة من عينى وأنا أتذكر مدرستى التى حوت مُصلى صغيراً فى فنائها كنا نتلقى فيه دروس الدين الإسلامى، بينما إخوتى المسيحيون يتلقون دروسهم فى الفصل لعدم وجود كنيسة صغيرة فى المدرسة. وكيف كنا ننتظر جميعنا الانتهاء من الدروس سريعاً لنجرى فى فناء المدرسة نضحك ونلعب معاً ونحكى الحكايات ونتدرب على حفلات المدرسة دون الشعور بأى اختلاف بيننا. أنتبه على صوت أحد الحاضرين صائحاً مقاطعاً الرئيس: «حتقعد معانا.. .أنا حازعل لو مشيت»، أرى ضحكة الرئيس تجبر خواطرنا جميعاً فيغمرنى الإحساس بستر واحتضان وطن بينما كل ما حولك ينهار. لأحمد ربى على وطنى الذى منحنى الفهم فى الصغر، ومنحنى من يعرف معنى الله والمحبة فى الكبر.. فدعوت: أدامك الله يا وطنى أنت وأهلك.