كنت أتصور عندما بدأت كتابة سلسلة مقالات «جمعة إنقاذ الإسلاميين» أن تكون حلقات متعددة، لكن «تدخلاً» تحريرياً من الواضح أنه بسبب مساحة الصفحة أدى إلى اختصار عبارات قليلة منه، بينها عبارة ختام كان نصها: «وبإذن الله.. للحديث بقية». هذا التدخل الجراحى فى الحقيقة دفعنى للتفكير فى كتابة مقال يلاحق الأحداث التى تتلاحق بسرعة غير متوقعة، وبخاصة بعد أن أثبتت عاصفة الإعلان الدستورى التى جاءت بعد المقال الأول بقليل أن الفصيلين الكبيرين من الإسلاميين (الإخوان والسلفيين) يحتاجون من ينقذهم من أنفسهم، وربما أضيف الآن أن هناك حاجة لإنقاذ الوطن من خيارهم السياسى، وهو خيار سياسى أولاً وأخيراً، ولافتته الدينية لا تعبر عن حقيقة محتواه!
وبحكم خطاب الابتسار السائد فى الإعلام والتكالب المقيت على احتكار اللافتة الإسلامية، أقول هذا كمنتمٍ للحركة الإسلامية يجد نفسه مطالباً بأن يصطف مع القيم التى تعلمها من دينه لا من التعليمات التنظيمية لقيادته. وأحمد الله أننى اخترت من البداية موقع «المستقل» عن التنظيمات.
وقد تزاحمت على رأسى الأفكار خلال الأيام القليلة الماضية حتى جاء خبر إعلان الجمعية التأسيسية نيتها التصويت على مسودة الدستور وتقديمه للرئيس خلال أيام، مشفوعة بمعلومات من مصدر قريب جداً من مؤسسة الرئاسة مفادها أن المسودة ستطرح للتصويت خلال أسبوعين فى غياب تيارات سياسية رئيسة فضلاً عن غياب الكنائس المصرية لتكتمل مأساة مصر الثورة قبل أن يكمل أول رئيس مدنى منتخب النصف الأول من عام رئاسته الأول.
الخبر دلالاته الأولى أن الخيار الذى انتصر هو خيار «فرض الأمر الواقع»، وأن قاطرة جماعة الإخوان المسلمين غادرت -إلى غير رجعة- محطة «مشاركة لا مغالبة»، وبعدها محطة «لا مشاركة ولا مغالبة»، وأنها وصلت بالفعل إلى محطة «سنريهم بأس الإسلاميين».
لكن هذه العبارة التى لم تفلت عرضاً من فم قيادى معروف هى فى الحقيقة عبارة تحتاج إلى تصيح لغوى. فلو أن هذا القيادى صدق مع نفسه لقال: «سنريهم بؤس الإسلاميين»!
والدستور الذى يشكل حجر الزاوية فى بناء أى نظام سياسى من الطبيعى أن يكون مثار خلافات تتسع أو تضيق، لكن غير الطبيعى أن يتم تبييت أمره بليل. والمفارقة الأكبر هنا أن الحجة التى استند اليها التحالف الإخوانى-السلفى للاستئثار بالأغلبية الكاسحة أن «الأقلية» غير الإسلامية (العلمانية أو الليبرالية أو...) تريد فرض وصايتها على المجتمع المصرى، وبالتالى لا بد من تركيب يعكس الوزن النسبى الكبير للتأييد للإخوان والسلفيين، وبالتالى فإن ما يحدث هدفه حماية المجتمع من طغيان الأقلية.
لا بأس. فلماذا تهرولون إذن بمسودة الدستور -على الأقل حتى الآن- دون أن يتم عرضه لحوار مجتمعى فى بلد سكانه تسعون مليوناً من البشر، وهو بلد فيه حركة نقابية عريقة وعشرات الملايين من المعلمين وشهية مفتوحة للسياسة منذ الثورة.
فإذا كان كل هذا العك السلفى-الإخوانى هو لحماية المجتمع من ديكتاتورية الأقلية فلماذا تحرمون المجتمع من الحوار حول الدستور؟ هذا طبعاً، فضلاً عن أسئلة أكثر إلحاحاً عن مغزى الانتهاء من الدستور فى غيبة ممثلى الكنائس المصرية. وأعتقد أننى لست محتاجاً فى هذا المقام إلى الإشارة إلى أن غياب أى قوة سياسية -مهما كانت أهميتها أو وزنها النسبى- يمكن «ابتلاعه» بأى تأويل مهما كان جامحاً، أما غياب الكنائس فلا يمكن ابتلاعه.
فمن أى خطر تحمون المجتمع بالضبط عندما تشرعون بالفعل فى إعلان الانتهاء من مسودة الدستور؟ وهل يستحق هدفكم «السياسى» (استباق حكم متوقع من المحكمة الدستورية) كل هذه المخاطرة، وصولاً إلى وضع الكل أمام أمر واقع؟
يا دعاة حماية المجتمع من طغيان الأقلية العلمانية الليبرالية، إلى آخر الصفات التى تنتهى أحياناً بتكفيرهم.. هل حقاً ستحرمون هذا المجتمع من الحوار حول الدستور الذى سيحكمه؟ أم ترى فى الحقيقة هدفكم حماية المجتمع من «خطر القراءة والتفكير»؟