«ألو.. أيوه يا كابتن؟ إزيك.. إزيك يا حودة، عامل إيه، واحشنى». لم أكن أتخيل أن أياماً عديدة ستمضى دون أن أسمع صوته فى أذنى يردد تلك الجملة، لم أتصور أن تمضى مباريات عدة دون أن أستمع إلى تعليقاته المبهجة وتحليلاته المتأنية، ولم يخطر ببالى أن المرض سيكون حائلاً دون طاقة إيجابية اعتدت أن آخذها منه دوماً.. لذا قررت أن أحادثه على رؤوس الأشهاد، أذكّره بكلمات ومواقف تدفعه إلى أن يستجمع كامل قواه فى مواجهة المرض، وأدعو بها الله أن يبقيه لنا فترة أخرى ننعم فيها بصوته.
«هو حضرتك أهلاوى ولا زملكاوى يا كابتن؟ لا.. أنا أولمباوى»، كانت تلك هى الجملة التى دشنت علاقة الـ15 سنة بين ابن وأبيه، ولم أشعر فيها لحظة بضجرك تجاه طفل داوم الإثقال عليك، ولم تمنعك طفولتى من التحدث معى ساعات وساعات للإجابة عن كل ما يتبادر إلى ذهنى من أسئلة حول مباريات كرة القدم. أتذكر يوم اتصلت بك لأشكو ضعف معلق إحدى المباريات وعدم قدرته على وصف أحداثها، فرددت من فورك: «خلاص، أعلّق لك أنا»، ومكثت معى ساعة كاملة عبر الهاتف تسعدنى بصوتك، واختتمت تعليقك بقولك: «كده مبسوط يا عم؟».
15 مارس 2002.. كان هذا هو تاريخ مباراة الأهلى وكايزر تشيفز بطل جنوب أفريقيا على بطولة السوبر، ويومها طلبت منك أن أحضر المباراة بجانبك داخل كبينة التعليق، وبين الحين والآخر كنت تترك التعليق لتهمس فى أذنى: «إيه رأيك فى التعليق؟ كده تمام؟»، وكنت تحاول أن تشعرنى بأهميتى فتسألنى: «هو الأهلى أخد كام دورى وكام كاس؟ تفتكر هيعمل تغييرات الشوط التانى؟»، وحينما شكرتك على عنائك لإسعادى عنّفتنى قائلاً: «بس يا واد عيب.. انت مش زى مصطفى ابنى؟».
كيف أنسى جولاتى بصحبتك؟ كيف أنسى حرصك الدائم على أن نتقابل كل عام قبل أن أغادر الإسكندرية منذ أن كنت فى الحادية عشرة من عمرى؟ كيف أنسى سعادتى ويدى تستند إلى ذراعك نسير فى شوارع الإسكندرية، سيدى بشر والمعمورة واستاد برج العرب واستاد الإسكندرية، وتغمرنى الفرحة حين أشعر بحب الناس الذى لا يخفى بين كل دقيقة وأخرى.
«الواد ده ضرير، لكن جن مصوّر»، هذه الجملة هى التى اعتدت أن أسمعها منك خلسة بعد نهاية كل مكالمة تليفونية معك، واعتدت أن تقدمنى بها إلى كل شخص توسمت فيه القدرة على مساعدتى لتحقيق حلمى. ألم تكن أنت من قدمنى للإعلامى طارق رضوان ليعطينى فرصة فى إحدى الإذاعات الخاصة مراسلاً فى الملاعب رغم فقد بصرى؟ ألم تحارب من أجلى لأنضم إلى إذاعة الشباب والرياضة وظللت تحيى الحلم فى صدرى حينما رفضونى؟
28 سبتمبر 2010.. كنت معى من بداية اليوم، وازدادت فيه نكاتك وسخريتك من أشياء كثيرة بهدف تهدئتى، فذلك اليوم يتزامن مع أول حلقة من برنامجى الرياضى على إحدى إذاعات الإنترنت، ولم تكتف بأن تسجل لى تتر البرنامج بصوتك، بل حرصت أن تكون أول ضيوفى وتهدئ من روعى وتصحح أخطائى، وتنتفض مهاجماً كل من حاول انتقادى بقولك: «هو انتو يعنى اتولدتوا نجوم؟».
لم تتركنى بعد أن قررت أن أترك الكرة وأعمل صحفياً يهتم بالسياسة وأمورها، كان شعور الأب طاغياً عليك حينما تسمع منى كلاماً تعتبره حماسة زائدة من شاب متمرد، أحسست بقلبك يتراقص عند إبلاغك بأننى صرت صحفياً بجريدة «الوطن»، وحاولت أن تخاطب كل من تعرفهم بالجريدة لتوصيهم بى خيراً، وحينما كانت الدنيا تأخذنى منك أياماً كنت تعاتبنى فى أول مكالمة تجمعنا: «إيه يا ابنى فينك.. اختفيت كده ليه؟».
«خلاص هانت.. أنا راجع بعد كام يوم»، ذلك آخر ما سمعته منك، كانت الثامنة من مساء يوم 5 يناير 2016، ولكنى على ثقة أنك ستنتفض من مرضك كما انتفضت يوماً لتحقيق رغبتى فى لقائك قبل أن أغادر الإسكندرية فى مايو الماضى وشاهدنا معاً مباراة «برشلونة وبايرن ميونخ» فى قبل نهائى دورى الأبطال الأوروبى، وتسبب لك ذلك فى «دور برد» شديد لتحذير الأطباء لك من الخروج وقتها. «أبى».. بحق احتضانك لى.. بحق تواضعك الذى لم أرَ له مثيلاً.. بحق ضحكاتك التى ملأت الدنيا من حولنا بهجة.. تصحبك دعواتى وصلواتى وكل مشاعر صادقة من ابن لأبيه..
(كانت هذه رسالتى الأخيرة إلى الصديق العزيز والأب الروحى محمود بكر قبل رحيله).