فى صلح الحديبية، يقف الإنسان مبهوراً وفخوراً.. ومأخوذاً أيضاً.. لماذا؟ لأن الصدق والوفاء يتجليان، خاصة وقت الشدة وأثناء الأزمات، بأعظم وأروع ما يكون.. تعالوا بنا نقترب من موقف جلل، ملهم ومعبر، عن عظمة النبى (صلى الله عليه وسلم).. لقد عرضت قريش عليه شروطاً مجحفة، داخل المسلمين منها أمر عظيم، وبدت منهم معارضة شديدة، لكن النبى وافق عليها.. فقد تضمنت بنود المعاهدة ما يلى: ١) على المسلمين أن يرجعوا إلى المدينة دون أن يدخلوا مكة ذلك العام، ٢) من حق المسلمين أن يأتوا فى العام المقبل فيدخلوا مكة ليقضوا مناسكهم، ٣) تلتزم قريش بعدم التعرض للمسلمين حين يدخلون مكة، بأى نوع من التعرض، ٤) على المسلمين لدى دخولهم مكة ألا يحملوا من السلاح إلا سلاح الراكب وهو السيف، ٥) يلتزم المسلمون بألا يشهروا سلاحهم وهم بمكة، بل عليهم أن يتركوا السيوف فى أغمادها ما داموا فيها، ٦) المدة المحددة التى ليس للمسلمين أن يقيموا أكثر منها فى مكة، هى ثلاثة أيام فقط، وعليهم أن يغادروها بعد انقضائها فوراً، ٧) إنهاء حالة الحرب القائمة بين المسلمين وقريش، بقيام هدنة بين الطرفين لمدة عشر سنوات، يأمن الناس فيها على أنفسهم، ٨) يلتزم النبى صلى الله عليه وسلم، بأن يرد إلى قريش كل من جاء إليه من أبنائها بعد إبرام هذه المعاهدة، إذا كان قد جاء بغير إذن أهله، وعلى النبى الالتزام بذلك حتى ولو كان اللاجئ مسلماً، ٩) ليس على قريش أن ترد إلى النبى صلى الله عليه وسلم، من جاء إليها من المسلمين حتى ولو كان مرتداً عن دينه، ١٠) تترك الحرية المطلقة للقبائل المجاورة للحرم لينضموا إلى أى من المعسكرين شاءوا، ويدخلوا فى عهد أى الفريقين أرادوا، ١١) تعتبر القبيلة التى تنضم إلى أى من المعسكرين جزءاً من المعسكر الذى تدخل فى عهده، لها ما له، وعليها ما عليه، وعليها الالتزام بماء جاء فى بنود المعاهدة، و١٢) أى عدوان تتعرض له أى من هذه القبائل يعتبر عدواناً على المعسكر الداخلة فى عهده كما يعتبر هذا العدوان مبطلاً للمعاهدة..
فى مؤلفه القيّم «صلح الحديبية»، يقول «باشميل»: «ولعل من أبلغ الدروس فى صلح الحديبية درس ألقاه النبى القائد والحاكم فى الوفاء بالعهد والتقيد بما يفرضه شرف الكلمة من الوفاء بالالتزامات التى يعطيها المسئول الشريف فى كلمته مهما ترتب على هذا الوفاء من خسائر وآلام تصيب الموفى بالعهد.. إن النبى صلى الله عليه وسلم ما أخل يوماً بعهد، بل كان دائماً وأبداً سباقاً للوفاء بالكلمة، حريصاً على التزام الصدق مهما كانت العواقب».. هذا الدرس نستخرجه من حادثة أبى جندل التاريخية المؤثرة.. فقد كان لسهيل بن عمرو، رئيس وفد الشرك فى مفاوضة الحديبية، ابن شاب -يدعى «أبوجندل»- كان قد هداه الله للإسلام فى مكة، فاعتقله أبوه وأودعه السجن وقام بتعذيبه لحمله على العودة إلى الوثنية، لكنه صبر وتحمل وظل على إسلامه.. وحانت لأبى جندل فرصة مكنته من الفرار من سجن أبيه ووصل إلى معسكر المسلمين وهو يرسف فى قيوده، فرمى بنفسه فاراً بدينه بين أظهرهم طالباً حمايته، فرحبوا به وصار واحداً منهم.. غير أن أباه سهيل بن عمرو لم يكد يراه بين المسلمين (والمعاهدة لم يجف مدادها بعد) حتى صرخ فى وجهه وانهال ضرباً على وجهه ثم أخذ يجره بتلابيبه ويدفع به أمامه ليعود به إلى معسكر الشرك.. استغاث «أبوجندل» بالمسلمين، وقال: يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنونى عن دينى، ألا ترون ما لقيت؟ حينذاك اعتذر النبى (صلى الله عليه وسلم) لأبى جندل، وقال: إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وأعطيناهم عهداً وإنا لا نغدر بهم.. لم يلجأ سهيل بن عمرو إلى القوة لإلقاء القبض على ابنه المسلم، بل لجأ إلى الاحتجاج لدى النبى القائد وطالبه بأن يسلم إليه ابنه أبا جندل وفقاً لاتفاقية الصلح التى ينص البند الثامن منها على التزام النبى (صلى الله عليه وسلم) بأن يرد من جاء إليه من قريش بغير إذن أهله.. قال فى احتجاجه: هذا أول ما أقاضيك عليه، لقد لجت القضية بينى وبينك قبل أن يأتى هذا، يعنى ابنه.. ولم يسع النبى القائد -وهو أبر من أوفى بالعهد- إلا أن يقف عند كلمته ويطبق الاتفاقية نصاً وروحاً، فقال لـ«سهيل»: صدقت، وسمح له باعتقال ابنه المسلم وإعادته إلى مكة، رغم علمه بما فى هذا التصرف من إيذاء شديد لعواطف المسلمين.. إلا أنه (صلى الله عليه وسلم) -مع ذلك- طلب من سهيل بن عمرو أن يسمح لابنه بالبقاء مع المسلمين قائلاً: فأجره لى، أى اتركه فى جوارى وأمانى، وهى عادة متبعة عند العرب.. فقال سهيل: ما أنا مجير لك ذلك.. فكرر النبى الطلب قائلاً: بلى، فافعل.. فكرر سهيل الرفض قائلاً: ما أنا بفاعل.. وهنا تدخل عضوا الوفد القرشى (حويطب بن عبدالعزى ومكرز بن عمرو) فاجارا أبا جندل، وتعهدا بألا يمسه العذاب فى مكة، حيث قالا للنبى (صلى الله عليه وسلم): قد أجرناه لك (يا محمد) لا نعذبه.
لقد حاول النبى -رغم التزامه الكامل بالوعد- أن يجد مخرجاً للمشكلة.. لم يناور أو يلتف، لكنه كان متسقاً مع الأعراف والتقاليد العربية.. لم تنجح المحاولة مع سهيل بن عمرو، إلا أنها نجحت جزئياً مع رفيقيه؛ «حويطب ومكرز».. المهم أن سهيل بن عمرو استلم ابنه الشاب المسلم ليزج به فى السجن مع أمثاله من شباب قريش المسلمين الذين حال طغيان أهلهم بينهم وبين اللحاق -كمهاجرين- بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى المدينة.
هكذا فعل النبى، فماذا فعل الإخوان المسلمون؟ لقد كانوا أغلبية فى مجلس النواب، كما كانت الوزارة مشكلة فى الأساس منهم، والمحافظون ورؤساء الأحياء والمدن هم الذين اختاروهم من بينهم، بل إنهم وصلوا إلى قمة هرم السلطة فى مصر.. لكنهم بعد عام واحد فقط سقطوا سقوطاً مروعاً.. ولم يكن ذلك سببه انعدام الخبرة والتجربة أو عدم الكفاءة العلمية والفقهية فقط، وإنما لضعف وخواء فى البناء الروحى والأخلاقى أيضاً.. لم يكن الإخوان صادقين مع الآخرين.. فمنذ اللحظة الأولى خانوا رفاق الميدان وذهبوا للتحاور مع الراحل عمر سليمان، برغم الاتفاق المبرم أنه لا حوار إلا بعد الرحيل.. بعدها أثاروا انقساماً حاداً بينهم وبين أطراف الجماعة الوطنية فيما عرف بالتعديلات الدستورية والاستفتاء عليها.. ثم كانت جمعة الوقيعة فى ٢٩ مايو ٢٠١١.. وكانت ثورة البرلمان كبديل عن ثورة الميدان، ثم لما تأزم الموقف مع حكومة د. الجنزورى -أو بالأحرى المجلس العسكرى- عادوا يتبنون كلاً من ثورتى البرلمان والميدان(!).. قالوا إنهم لن ينافسوا على أكثر من ٣٠٪ من مقاعد البرلمان، وخالفوا ما وعدوا به.. وقالوا إنهم لن يرشحوا أحداً منهم للرئاسة، ثم عادوا ونكصوا على أعقابهم، وغير ذلك مما يعلمه الجميع..