«الكشافة».. جندى مجهول فى تنظيم عزاء «البابا»
أعضاء الكشافة خلال تنظيم عزاء البابا شنودة
فى ذلك اليوم، منذ 4 سنوات، هرول مئات الآلاف من الأقباط إلى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، يودعون بابا كنيستهم، ويلقون عليه النظرة الأخيرة، القلوب موجوعة والأعين أهلكتها الدموع وانتشر السواد، الحزن سيد الموقف، إلا أن فريقاً من هؤلاء الحزانى أسندت إليه مهمة أخرى شاقة فى وسط هذا الظرف الذى هز أرجاء الكنيسة المصرية، فعليه أن ينحى حزنه جانباً ليتولى مهام قد تكون الأصعب منذ تأسيسه، فريق «الكشافة» المعنى بتنظيم وتأمين الاحتفالات والمناسبات التى تنظمها الكنيسة.
متطوعو الكشافة: لا نوم ولا أكل ولا شرب.. وقائد كشافة الكنيسة: 3 آلاف عضو نظموا نظرة الوداع على البابا فى حماية الجيش والشرطة
فور إعلان وفاة البابا شنودة، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، لم ينتظر أعضاء الكشافة استدعاءهم، بل تجمعوا فور علمهم بخبر انتقال البابا فى الكاتدرائية، مدركين بفطرتهم وطبيعة خدمتهم دورهم فى تنظيم عملية إلقاء شعب الكنيسة نظرة الوداع على البابا، التى تستمر لثلاثة أيام، كما أوضح الدكتور صموائيل القمص متياس، قائد عام الأمانة العامة للكشافة والمرشدات بأسقفية الشباب: «الشباب بادروا بالسؤال هيتجمعوا إمتى وفين، وفى وقت قليل كانوا موجودين فى الكاتدرائية».
«الحدث كان أكبر من أى فكرة تنظيم، أكبر من نظام الكشافة والشرطة والأمن العسكرى»، بتلك الكلمات حاول «متياس» توضيح هول الموقف الذى فاق حد التنظيم والسيطرة عليه، نظراً للجموع الغفيرة التى حضرت لوداع البابا، موضحاً أن دور الكشافة آنذاك كان محاولة تهدئة الناس من حالة البكاء الهستيرى التى سيطرت عليهم، ومحاولة تنظيمهم فى طوابير، وتنسيق عملية الدخول والخروج من وإلى الكنيسة، من خلال تحديد أبواب للدخول من الناحية الخلفية وتحديد مسارات داخل الكنيسة لرؤية البابا ثم الخروج من أبواب الناحية الأخرى.
«فادى» حضر من بنى سويف.. و«عادل» نظّم طوابير فى الشارع.. و«ميرنا»: كله يهون عشان البابا
حالات عديدة من الإغماء والسقوط تعرض لها البعض، نظراً للزحام والتدافع الشديد، كان يتعامل معها أعضاء الكشافة كما أوضح قائدها لـ«الوطن»، من خلال محاولة إفاقتها ومساعدتها، أو الاستعانة بالإسعاف، والمهمة الأكبر كانت تتمثل فى محاولة تهدئتهم مع التأكيد على مساعدتهم على رؤية البابا، فيقول قائد الكشافة: «كان فيه ناس جاية من بعيد، من محافظات كتير، عشان تلقى النظرة الأخيرة على البابا»، عاونهم فى ذلك قوات الأمن والشرطة العسكرية، التى بذلت مجهوداً كبيراً فى عملية التنظيم بالتعاون مع كشافة الكنيسة.
حزن وبكاء ودموع، وعمل أيضاً، كان هذا حال أعضاء الكشافة الذين بلغ عددهم نحو 3 آلاف شخص، كما أوضح «صموائيل» معتبراً أن صدمة الخبر الأولى كانت الأصعب على الإطلاق: «الأصعب أنهم يوازنون بين حزنهم على رحيل أبوهم، وخدمتهم فى تنظيم نظرة الوداع عليه، إنها لحظات تحتاج إلى ثبات انفعالى قوى، واستطاع شباب الكشافة أن يتجاوزوا صدمتهم، وكان حزنهم الشديد هو الدافع لمساعدة الناس لرؤية البابا للمرة الأخيرة قبل دفنه».
3 أيام عاشها أعضاء الكشافة فى الكاتدرائية دون نوم، قسموا فيها بعضهم إلى مجموعات، تعمل إحداها لساعات وترتاح الأخرى فيها، ثم تتبدل المجموعات عكسياً، حتى يستطيعوا مواصلة خدمتهم، داخل الكنيسة والكاتدرائية فضلاً عن مجموعات الكشافة منهم بالشوارع التى امتلأت بالناس حتى بعد «كوبرى أحمد سعيد»، وعندما حاولت الكشافة إقامة حواجز بالفِراشة، تمكنت من ذلك بعد ساعات طويلة نظراً للأعداد الكبيرة المتدفقة والمتدافعة، وكان يتناوب الآباء الأساقفة أيضاً مع بعضهم حول جثمان البابا، يساعدهم فى ذلك أفراد الكشافة، فالشعب المصرى -بطبيعته- لا يقتنع بالنظام كثيراً، فكانوا يحاولون الوصول للبابا على الكرسى «عشان ياخدوا بركة».
لساعات طويلة جداً، وقف أعضاء الكشافة محاولين تنظيم الأمور وسط تدافع الآلاف، حتى إن بعضهم أصابه الإعياء نتيجة لعدم تناوله أطعمة لفترات طويلة، نظراً لأن كثيراً منهم لم يتمكن من الخروج من الأساس فى محاولة الحصول على مياه وأطعمة: «كنا بنلاقى ناس بتدينا أكل وشرب، وإحنا مانعرفهمش، ناس كان ربنا بيبعتهم عشان تسند الشباب اللى واقفة فى وسط الظروف دى ليل نهار، فالكاتدرائية فتحت أبوابها 24 ساعة طوال الأيام الثلاثة لإلقاء نظرة الوداع على البابا».
إلى جانب الجهد الشاق الذى بذله أعضاء الكشافة، كانوا يستعدون لصلاة الجنازة على البابا، والوفود التى ستحضر لتشارك فى الصلاة، واستعدادات حضور المسئولين والسفراء والشخصيات العامة للعزاء، يعاونهم فى ذلك قوات الشرطة والجيش.
من بنى سويف إلى القاهرة، جاء فادى فايز، بعد رسالة نصية تحثه على القدوم للكاتدرائية، ليرتدى زى الكشافة وينطلق سريعاً ليشارك بمراسم توديع البابا: «أول ما عرفت، رحت البيت لبست وسافرت، وطول الطريق وأنا بعيط، مش مستوعب ولا مصدق، وصلت الكاتدرائية السبت بالليل، كانت الكشافة بتعد تجهيزات الجنازة، من كتر صعوبة الموقف، ماقدرتش أدخل أشوف البابا، يوم الحد الصبح، العدد كان كبير أوى، كل واحد كان ملتزم بموقع لتنظيم دخول الناس تشوف البابا».
3 أيام متواصلة، وقف «فادى» فيها على قدميه، دون راحة لتناول الطعام: «خلال الكام يوم دول كلت سندوتشين فقط، أخدتهم من طاقم إحدى القنوات، ماكنش عندنا وقت لأى حاجة، غير تنظيم الناس، العدد كان بيزيد كل ساعة، ناس بيغمى عليها، وناس جاية من محافظات نفسها تشوف البابا، ماكنش فى إيدينا حاجة غير إننا ننظم ونعمل طوابير، وننقل التعبان للإسعاف».
شددت ميرنا سمير، قائد كشافة الكنيسة التابعة لها، على الحضور والتجمع خلال ساعة واحدة، بعد خبر وفاة البابا: «القائد قالنا مفيش وقت للبكاء، ساعة بالظبط تروحوا تلبسوا زى الكشافة وتيجوا هنا عشان نروح للكاتدرائية، واعملوا حسابكو على المبيت»، كذلك تروى «ميرنا» ساعتها الأولى من التحضير لجنازة البابا: «وصلنا الكاتدرائية بالليل، وقتها كان أعضاء الكشافة بينصبوا الخيام، وبيقسموا الخدمات والمجموعات، لأن كل مجموعة مسئولة عن تنظيم دخول الناس للبابا من بوابة معينة».
صباح يوم الأحد، تسلم كل عضو فى الأمانة العامة للكشافة والمرشدات بأسقفية الشباب خدمته: «الخدمة فى اليوم ده كانت تنظيم الناس للطوابير، لتسهيل دخولهم لنظرة وداع البابا»، وعن استمرار خدمتها لأكثر من يوم، قالت: «ماكناش حاسين بتعب، كان فين وفين لما نفكر ناكل أو نشرب، كان هدفنا بس إن جنازة البابا تليق بيه، ماكنش ينفع نستهون بيوم زى ده».
لم يتمكن «عادل نصحى» من التجمع مع أعضاء الكشافة بالكاتدرائية مع بقية زملائه من الكنائس المختلفة، فحضر فى أول أيام إلقاء نظرة الوداع على البابا، إلا أنه لم يتمكن من الدخول والتنسيق معهم: «وصلت وماكنتش متخيل الأعداد اللى شفتها يومها، الناس كانت طوابير فى الشوارع، وماعرفتش أدخل أنسق مع الكشافة، فوقفت فى الشارع أنظم طوابير الناس مع زمايلى الواقفين»، ونظراً لأن أقاربه كانوا معه، فكان يذهب ويأتى طواعية للتنظيم دون التنسيق مع الكشافة، واكتفى بالتنسيق مع بعض الشباب الذين تطوعوا لمساعدة الواقفين فى الطوابير للدخول للكاتدرائية بسلاسة دون تدافع.
وعن آخر لقاء بين الكشافة والبابا، قال قائد الكشافة إنه كان فى عيد الميلاد الذى سبق وفاته، وحينما سُئل البابا عن دعوات الحضور، طلب منهم أن يدعوا الجميع ويرسلوا دعوات لجميع الفئات السياسية والدينية والمجتمعية وغيرهم: «كان عيد صعب جداً، لأن البابا كان تعبان جداً وبيتألم، وكان واضح إنه بيمشى بصعوبة وألم شديد، وبيتحامل على نفسه بدرجة شديدة عشان يفرح الناس فى العيد»، وكانت الكشافة تحاول عدم اقتراب أحد منه ولمسه حيث كان شديد التعب، للدرجة التى سلم فيها على الناس فى العيد وهو جالس، على غير عادته، حيث لم يستطع الوقوف بسبب ظروفه الصحية.
وبطريقة مستمرة كان يلتقى البابا بالكشافة، كما يحكى قائدها الدكتور «صموئيل» فيقول إنه دائماً ما كان يجلس مع أعضائها ويسألهم عن أخبارهم وآخر تطورات خدمتهم وعلاقتهم بشعب الكنيسة، ويضحك معهم كثيراً، ويلتقط صوراً معهم، الأمر الذى صعّب على الكشافة صدمة وفاته ووقوفهم ينظمون مراسم إلقاء نظرة الوداع ودفنه وتأبينه.