لو استمرت عملية البناء الجارية الآن فى مصر بنفس الوتيرة لعدة أعوام أخرى، فسيذكر التاريخ الرئيس عبدالفتاح السيسى باعتباره أحد البنائين الكبار لمصر الحديثة، لينضم بذلك إلى القائمة التى تضم محمد على والخديوى إسماعيل وجمال عبدالناصر. شبكة الطرق الجديدة التى يتم بناؤها وفقاً لمعايير عالمية لم نعتد عليها فى مصر، والتوسع العمرانى والتنموى فى سيناء وإقليم قناة السويس والساحل الشمالى الغربى والصحراء المحيطة بالوادى الضيق فى صعيد مصر، ومحطات الطاقة العملاقة التى ستتيح الطاقة اللازمة لتلبية احتياجات الاستخدام المنزلى والتوسع العمرانى والتنمية الاقتصادية، وتطوير العشوائيات أو إزالتها كلية إذا استلزم الأمر، وتطوير الموانئ والمطارات. إنها قائمة طويلة من مشروعات التنمية التى تكون إذا نظرنا لها مجتمعة تجسيداً لرؤية تنموية شديدة الطموح.
لا شك لدىّ فى أن الرئيس عبدالفتاح السيسى سيعاد انتخابه لفترة رئاسة ثانية بعد انتهاء فترة رئاسته الحالية. هذا هو ما ترجحه ما أظنها مشاعر سائدة فى أوساط الرأى العام، وهو ما ترجحه أيضاً موازين القوى السياسية فى البلاد، إذ لا يوجد منافس حقيقى لرئيس تسانده القوات المسلحة، وعقيدته هى أيديولوجيا الوطنية المصرية. فإذا استمرت ورشة البناء الجارية الآن فى مصر لست سنوات أخرى فإن وجه مصر وشكل الحياة فيها سيتغيران بشكل كامل.
لقد غيرت إنجازات محمد على مصر وجعلت منها بلداً مختلفاً تماماً، وكذلك فعل الخديوى إسماعيل وجمال عبدالناصر، ولكن فى كل مرة كانت مرحلة النهوض الكبير يتبعها تباطؤ أو توقف كامل انتظاراً لموجة وقفزة تنموية جديدة، ولا نريد للنهضة الراهنة أن تكون مجرد حلقة أو قفزة ننتظر بعدها سنوات عدة حتى يحين موعد القفزة التالية. سياسة القفزات التنموية التى بقينا نتبعها طوال القرنين الماضيين لم تصل بنا سوى إلى ما نحن عليه الآن: بلد ومجتمع متوسط فى كل شىء، فى متوسط دخل الفرد ومستوى الرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية والتطور الديمقراطى والنزاهة، وكل شىء آخر، فلا نحن انحططنا إلى مستوى الأمم الأكثر فقراً وجهلاً ومرضاً وتخلفاً، ولا لحقنا بقائمة الدول الأكثر ثراء وتطوراً وديمقراطية ونزاهة.
أمة متوسطة الإنجاز، هكذا نحن، لكن هذا لم يعد كافياً، فتطلعات الناس زادت كثيراً عما تستطيع القفزات التنموية المتقطعة تحقيقه، ونقص التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية أدخلنا فى أزمات طاحنة كادت تدفعنا إلى هوة سحيقة، وما حدث فى يناير قبل خمسة أعوام هو تعبير عن أزمة النمو المتقطع هذه، أكثر منه تعبيراً عن مجتمع نضج واستكمل مرحلة من مراحل تقدمه ونموه، وبات قادراً ومتطلعاً للانتقال إلى مرحلة جديدة أكثر رقياً وتقدماً.
تحدى الاستدامة هو التحدى الذى نواجهه، وهو السؤال الذى نتوقع من القيادة السياسية أن تساعدنا فى الإجابة عنه. ليس فى طرح سؤال الاستدامة تشكيك فيما تنجزه ورشة العمل الهائلة الجارية على أرض مصر، ولكنه سؤال منطقى مبنى على تاريخ طويل لبلد لم يعانِ من شىء قدر معاناته من النفس القصير وقفزات التنمية المتقطعة.
الطموح الخارجى المبالغ فيه، وما جلبه على البلاد من تدخل خارجى كان سبباً فى إحباط جهود محمد على وجمال عبدالناصر التنموية، وأظن أن الرئيس عبدالفتاح السياسى والقوات المسلحة المصرية والنخب المساندة لهم قد استوعبوا هذا الدرس جيداً، وما الحذر الراهن فى إدارة علاقات مصر الخارجية مع الحلفاء والخصوم على حد سواء سوى تطبيق لهذا الدرس.
التدخل الأجنبى كان هو السبب فى إحباط جهود الخديوى إسماعيل التى انتهت بعزله وفرض الرقابة المالية الأجنبية وصولاً للاحتلال البريطانى، مع فارق مهم هو أن طموحات الخديوى إسماعيل الخارجية لم تكن هى السبب فى استدعاء التدخل الخارجى، وإنما غياب الانضباط المالى والإسراف فى الاستدانة، وهو الأمر الذى ما زلنا نتوقع من القيادة السياسية أن تقدم لنا رؤيتها بشأنه. فالتنمية ومشروعاتها لها تكلفتها الكبيرة، وبدون توفير التمويل اللازم لن تقوم للتنمية قائمة. فى نفس الوقت فإن التوازن ضرورى بين عائدات التنمية وتكلفتها، فمصر ليست بلداً بترولياً يمكنه مواصلة الإنفاق بكثافة ولفترة طويلة على مشروعات لا تدر عائداً نستخدمه فى مواصلة التنمية. وإذا كان الرئيس السيسى يمثل العقل المفكر ومصدر الإلهام لخطط التنمية الراهنة، فإن حكومته عليها أن تقدم لنا كشف حساب دقيقاً بمصادر التمويل والتدفقات المالية ليس لهذا العام فقط إنما للسنوات المقبلة أيضاً، وهو البعد الذى لم يتم تغطيته بشكل كاف فى استراتيجية التنمية 2030، التى اشتملت على قائمة طويلة من المشروعات دون بيان لمصادر تمويلها.
جهود «عبدالناصر» التنموية لم تتعرض للتوقف بسبب الحروب والتدخلات الخارجية فقط، وإنما أيضاً بسبب عدم أهلية المؤسسات الوطنية، وأقصد أجهزة الإدارة وبيروقراطية القطاع العام، لإدارتها بكفاءة، ففشلت تجربة استصلاح الأراضى فى مديرية التحرير، وتحولت مشروعات الإسكان الحكومى إلى عشوائيات جديدة، ولنا فى عين الصيرة وأمثالها عبرة، وتحولت مصانع القطاع العام إلى مشروعات خاسرة، يتحمل عبئها دافعو الضرائب والموازنة العامة المنهكة بدلاً من أن تكون مصدراً لتوليد الدخل وزيادة الثروة، وتحولت مدارسنا إلى مؤسسات تعليمية هيكلية لا تقدم تعليماً أو تربية، الأمر الذى يضع تحدى الإصلاح الإدارى فى القلب من عملية التنمية، والذى بدونه قد تكون جهود التنمية الراهنة معرضة للحاق بسابقاتها، لا قدر الله.
التقدير واجب لكل جهد يضيف لطاقات الإنتاج والخدمات والرفاهية فى هذا الوطن. والشفافية واجبة من أجل الاطمئنان على المستقبل، ومن أجل كسب ثقة شعب ونخبة سكنهم الشك بعد كل ما مر بهم من تجارب وخبرات.