ذكرنا في المقال السابق أن اللغة العربية تنتمي إلى مجموعة "اللغات السامية" وهي فرع من فروع "اللغات الأفروآسيوية (Afroasiatic) أو "اللغات الحامية-السامية (Hamito-Semitic)".
واليوم نتحدث بشيء من التفصيل عن هذا التصنيف؛ لأن ذلك ضروري جدا لفهم تاريخ "اللغة العربية" و"لغة مصري" في آنٍ، كما يسهم في تحديد نوع العلاقة الملتبسة بينهما.
ولنبدأ أولا بشرح فكرة تصنيف اللغات إلى "مجموعات" أو "عائلات".
نشأت فكرة "العائلة اللغوية" في علم اللغة التاريخي كانعكاس لفلسفة "التطور" التي اجتاحت العالم (الغربي خصوصا) في أوائل القرن التاسع عشر، وهي تفترض وجود علاقات نسب بين مجموعة/مجموعات لغوية استنادا لوجود قرابة وتشابه بين تلك المجموعات في المستويات اللغوية المختلفة:
المستوى الصوتي Phonology (عدد الأصوات sounds وتوزيعها في الجهاز الصوتي ونسبة الصوامت consonants إلى الحركات vowels مثلا).
المستوى الصرفي Morphology (كيفية تنظيم تلك الأصوات في "ألفاظ words" أو "مورفيمات morphemes" لها وظيفة أو دلالة محددة).
المستوى التركيبي/النحوي Syntax (كيفية تنظيم الألفاظ لتشكيل "جمل sentences" مكتملة المعنى أو "عبارات phrases" شبه مكتملة المعنى).
المستوى المعجمي Lexicon (أو دلالة الألفاظ).
هذا بالطبع لا يكتمل إلا بوجود علاقة تاريخية و/أو جغرافية تربط بين الجماعات البشرية المتحدثة بتلك اللغات.
وثمة نقطة أساسية يجب التأكيد عليها، ألا وهي أن انتماء مجموعة لغات إلى عائلة لغوية واحدة قد تكون من أصل واحد (ex eadem origine) لا يعني إطلاقا أن المتكلمين بهذه اللغات هم أيضا من أصل عرقي/إثني واحد. على سبيل المثال، فاللغة المصرية القديمة في مراحلها المتأخرة تأثرت بشدة باللغات السامية المجاورة لها في الأراضي التي كانت خضعت لسيطرة مصر من تخوم سيناء إلى غرب شبه الجزيرة العربية ومناطق ممتدة فيما يُعرف اليوم بـ"بلاد الشام"، وربما لو امتد التأثر لفترة أطول لكانت اللغة المصرية القديمة قد تحولت من لغة "حاميّة" إلى "سامية". كذلك الحال - ولو بصورة أكبر - في اللغة المالطية التي تنتمي فعليا إلى مجموعات اللغات السامية (فرع اللغات العربية)، رغم أن المالطيين ليسوا بالقطع من "الشعوب السامية" وبالتأكيد ليسوا "عربا".
ومصطلح "الشعوب السامية" بدوره لا يعني وحدة الأصل العرقي لتلك المجموعات البشرية، لكنه يشير إلى مجموعات من البشر استوطنت منذ منتصف الألف الثالث قبل الميلاد مناطق تمتد من بلاد ما بين النهرين (العراق حاليا) وبلاد الشام الكبير مرورا بشبه الجزيرة العربية ووصولا إلى إثيوبيا ومنطقة القرن الإفريقي.
والبحث عن "أصل" هذه الشعوب ومن أين جاءوا لم يفضِ إلى أي نتائج أو حقائق مؤكدة. أغلب الظن أنهم استوطنوا المناطق الخصيبة في شرق وشمال سوريا أولا، ثم توالت هجراتهم الجماعية نحو الشرق (بلاد مابين النهرين) ثم نحو الجنوب (على طول الساحل الشرقي للبحر الأحمر حتى اليمن أولا ثم نحو الداخل في قلب الصحراء) ومنها - وفي مراحل متأخرة نسبيا - عبروا البحر الأحمر إلى إثيوبيا.
هذا التتابع التاريخي تؤكده الملاحظة الدقيقة للغات هذه الشعوب ومسارات تطورها التاريخي. لغات إثيوبيا مثلا هي تاريخيا من آخر اللغات السامية ظهورا، قبلها ظهرت لغات قلب شبه الجزيرة العربية، والتي تلت بدورها اللغات العربية الجنوبية - كالسبئية والمعينية والقتبانية والحضرمية - التي اندثرت جميعا قبل أن تبلغ العربية (الفصحى) أوج ازدهارها مع بزوغ مكة مركزا حضاريا وتجاريا على طريق التجارة بين الشام واليمن.
واللغة/اللغات العربية (التي ستتطور فيما بعد إلى ما يعرف بـ"اللغة العربية الفصحى") كانت لغات مجموعات عدة من القبائل العربية، التي بدأت في الهجرة من تخوم بلاد الشام نحو قلب الجزيرة العربية لأسباب لا نعرفها على وجه اليقين، وبدأت تستقل لغويا في حدود الألفية الأولى قبل الميلاد، كجزء من مجموعة اللغات السامية الغربية الجنوبية التي ستستقل كل منها فيما بعد بسبب الانعزال الجغرافي والتنازع السياسي فيما بين تلك الجماعات البشرية التي استوطنت شبه الجزيرة العربية.
كانت لغة كل قبيلة تختلف - قليلا أو كثيرا - عن غيرها من القبائل، وهذا على كل المستويات اللغوية، لكن هذا الاختلاف كان أقرب بالطبع إلى الاختلاف "اللهجي" (وقلنا قبل ذلك أن هذا هو المعنى الأصلي للفظ "لغة") ولعل أشهر هذا الاختلافات كان بين قبائل نجد وقبائل الحجاز، وكتب التراث اللغوي العربي - مثلا - تمتلئ بأوجه الخلاف بين "لغة تميم" و"لغة قريش". أقول "اختلاف لهجي" لأن درجة الفهم المتبادل (Mutual Intelligibility) فيما بينها كانت عالية جدا، وهذا معيار مهم في التفريق بين "لهجتين للغة واحدة" و"لغتين مستقلتين من أصل مشترك".
من ناحية أخرى، فالبون كان شاسعا جدا بين لغات تلك القبائل التي استوطنت وسط الجزيرة العربية وتلك التي استوطنت جنوبها (كاليمن وعمان)، وكان التفاهم فيما بينهم عسيرا إن لم يكن شبه مستحيل - رغم اتفاق الأصل اللغوي بينهما. وربما كان هذا السبب وراء ظهور مصطلحات كـ "العرب العاربة" و"العرب المستعربة" و"العرب البائدة"، والتي رغم افتقارها إلى الضبط تشير إلى تنويعات مختلفة من "الشعوب العربية" أو بالأحرى "اللغات العربية".
أرأيت أن الأمر معقد وأنها ليست "عربية واحدة".. بل هي - إن توخينا الدقة - "لغات عربية"؟
مع ذلك، فسطوع نجوم مكة وغيرها من المناطق المتاخمة كيثرب والطائف اقتصاديا وسياسيا، وازدياد دور العرب مع بدايات انهيار الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية بسبب الصراع الطويل بينهما والذي أنهك كلتاهما، سيؤديان إلى ظهور لغة شبه موحدة يفهمها كل العرب - تقريبا.. وهذا موضوع المقال القادم.
وللحديث بقية.. إن كان في العمر بقية.