عندما شاهدت الرئيس يفتتح إسكان الأسمرات لاستقبال أهالى الدويقة وبطن البقرة ومناطق عشوائية أخرى دعوت الله أن تكون هذه بداية النهاية للفقر والحياة غير الآدمية لأهل لنا وقعوا أسرى لإذلال الفقر وإهمال الدولة. عندما تسمع الرئيس السيسى يصف مصر بأنها شبه دولة، وعندما تجده يضع كل هذا الجهد والمال لإتاحة فرصة حياة كريمة لمصريين أضناهم الفقر والعشوائية، فإنك تدرك ما يقصده الرئيس بالحديث عن الدولة وشبه الدولة، فالدولة كاملة الأهلية فى رأى السيسى لا يمكن أن يكون فيها كل هذا الفقر، وكل هذه العشوائيات، وكل هذه البنية التحتية المهدمة. البنية الاقتصادية والتحتية المادية للدولة لها نفس قدر أهمية بنيتها الثقافية والسياسية، وترتيبها فى سلم الأولويات والتسلسل الزمنى يسبق أى شىء آخر. هذه ما أظنها رؤية الرئيس السيسى.
أتابع مشروعات السيسى وما ينفق فيها من أموال، فأظنها بداية جديدة لمصر الحديثة، وأتذكر مشروعات الخديو إسماعيل التى دفعت مصر أميالاً على طريق الدولة الحديثة، رغم كل الأخطاء التى وقع فيها إسماعيل. قبل عامين أقيم حفل تنصيب الرئيس السيسى فى قصر القبة، وكان القصر والحفل يليقان بدولة كبيرة وحدث كبير، قصر القبة ذو الأربعمائة غرفة بناه الخديو إسماعيل لابنه توفيق، ليصبح واحداً من سلسة قصور ومنشآت الخديو إسماعيل التى أعطت للدولة المصرية الحديثة الناشئة رموزاً للحداثة والبحبوحة والعراقة بما أتاحته للطبقة الحاكمة من مظاهر أبهة ملوك دول أوروبا، لم يكن هناك فى ذلك العصر سوى دول أوروبية صنعت فيما بينها نظاماً دولياً كان فى حقيقته أوروبياً، وكان على من يريد الانضمام إلى طائفة الدول وإلى هذا النظام الدولى - الأوروبى أن يتشبه بحكام أوروبا، أو هكذا اختار إسماعيل.
أراد إسماعيل تعزيز دولة مصر الحديثة بتعزيز مكانة أسرتها الحاكمة بمنحها مظاهر الأبهة الملكية التى ميزت ملوك أوروبا، بنى إسماعيل قصر عابدين ليكون مقراً للحكم بدلاً من قصر محمد على المتواضع فى القلعة، فتكلف بناء القصر 700 ألف من الجنيهات بأسعار ذلك الزمان، بنى إسماعيل قصر الجزيرة على مساحة ستين فداناً، وبنى فيه لإمبراطورة فرنسا «أوجينى» جناحاً طبق الأصل من جناحها فى قصر تويليريز، فتكلف المشروع 900 ألف جنيه حسب ما يخبرنا على مبارك، بنى إسماعيل لنفسه وأفراد عائلته الملكية قصوراً فى المنيا والمنصورة وجزيرة الروضة وداراً للأوبرا واليخت المحروسة الذى أصبح جزءاً من تاريخ مصر الحديثة، والذى استقله الرئيس فى افتتاح مشروع قناة السويس قبل عام، غير أن قصر الجيزة كان هو درة قصور الخديو إسماعيل، فتم بناؤه على 500 فدان تشمل حديقة الحيوان والأورمان وصولاً إلى مجلس الدولة، فزادت تكلفته الهائلة على المليون وأربعمائة ألف جنيه، بما فيه من الجبلايات والممرات الفسيفسائية البديعة والبحيرات الصغيرة الخلابة التى ما زال رواد حديقة الحيوان يستمتعون بها ويسيئون استخدامها إلى اليوم.
أنفق الخديو إسماعيل كل هذه الأموال فى وقت كان فيه إجمالى إيرادات الحكومة المصرية فى عام 1969، عام افتتاح قناة السويس، خمسة ملايين و255 ألف جنيه، وكان من المنطقى أن تعلن مصر إفلاسها بعد كل هذه النفقات التى تم بذلها لتعزيز وضع أسرة مالكة تكونت حولها طبقة حاكمة تولت إدارة البلاد فيما تلا من عقود، واليوم يقوم الرئيس السيسى بتأسيس مشروعات كبرى، لا هى مظهرية ولا هى مخصصة لسكنى أسرة مالكة أو طبقة حاكمة، وإنما هى مبادرات ومشروعات لتنمية الاقتصاد وسكن الفقراء وتحسين نوعية حياة عموم المصريين من مستخدمى الطرق، وراكبى المترو والقطارات، ومستهلكى الكهرباء والمياه والصرف، التكلفة كبيرة نعم، لكن الهدف والحلم يستحق، موارد مصر المالية محدودة بالتأكيد، لكن نفقات التنمية الراهنة كنسبة من إيرادات الدولة المصرية أقل بكثير مما مثلته نفقات الخديو إسماعيل كنسبة من إيرادات الحكومة المصرية فى زمنه.
لم يحتمل الخديو إسماعيل نظرة الأوروبيين المتعالية لبلده الشرقى البدائى، ولا لأسرته الحاكمة التى اعتبرها الأوروبيون امتداداً لحكام الشرق الطغاة المتآمرين فاسدى الذوق الخبثاء، أراد الخديو إسماعيل لأسرته الحاكمة ألا تبدو أقل ثراء ورفاهية وألفة مع الحياة الاستهلاكية الحديثة، فبنى قصوراً ودوراً للفن وحدائق رائعة، إنها عقدة النقص التى كانت حافزاً لمنح دولة مصر الحديثة رموزاً للحداثة والرفاهية ما زلنا نباهى بها الجيران حتى اليوم.
ليست لدى حاكم مصر الراهنة عقدة نقص مشابهة لتلك التى عانى منها إسماعيل، فلا هو مشغول برأى الأوروبيين فينا، ولا بمظاهر الأبهة الرئاسية أوالملكية، لدى السيسى وجع فى الضمير وجرح فى الكرامة بسبب بؤس الحياة التى يعيشها أغلبية من المصريين، السيسى لا يحتمل فقر المصريين وعوزهم، وطالما اشتكى من هؤلاء الذين «يعايرونا بفقرنا»، هذا ما جرح كرامة السيسى، وهذا ما دفعه للعمل على إتاحة فرصة الحياة الكريمة لفقراء المصريين، مشروع الأسمرات ومعه العشرات من مشروعات الإسكان الاجتماعى بنواحى مصر المختلفة هى أحد الأجوبة التى يقدمها السيسى على سؤال الفقر المنتشر فى بر مصر.
سينتقل سكان الدويقة وبطن البقرة لحى الأسمرات الجميل، لكن جيوب أغلبهم ستظل خاوية، فالطريق أمامنا ما زال طويلاً، وبينما ما زال علينا أن نملأ الجيوب الخاوية بتوفير عمل شريف منتج لكل قادر على العمل، فإنه علينا أيضاً المحافظة على جمال ومتانة كل بيت بنيناه للفقراء، وكل حديقة زرعناها لهم، وكل ملعب كرة ومنطقة ألعاب جهزناها لأبنائهم، فكما احتفلنا بتنصيب السيسى رئيساً فى قصر القبة التاريخى بعد أكثر من مائة وخمسين عاماً من بنائه، أتمنى أن نعود بعد خمسين عاماً لنحتفل فى حى الأسمرات بانتصار مصر الكامل على الفقر والعشوائية.