الحديث عن «تأليه» عبدالناصر.. مجرد «ثرثرة ماركسية»
بعد هزيمة 1967 هبط منحنى «عبدالناصر» الشخصى، وانتهى به الأمر قبل وفاته بقليل إلى قبول مبادرة روجرز ووقف حرب الاستنزاف.. هذا ما يقوله الماركسيون. حتى خروج الجماهير يومى 9 و10 يونيو، وخروجها يوم وفاة «عبدالناصر» على النحو الذى عرفناه.. فسره الماركسيون على طريقتهم: «الكهانة البورجوازية صنعت مناخ الفجيعة فى الحالتين». وأسامة أنور عكاشة لديه حساسية شديدة ضد الكثير من مقولات الماركسيين المصريين (هذا لا ينفى حساسيته ضد ممارسات بعض الناصريين). وعن «عبدالناصر».. حدث ولا حرج.
■ قلت لأسامة: لم نشعر فى المسلسل أن «عبدالناصر» تأثر بما حدث بعد النكسة. لم نسمع كلمة إدانة واحدة له على لسان أى من الشخصيات رغم اختلاف مواقفهم منه، بمن فيهم «عاصم السلحدار»، «الشيوعى المتطرف»، باستثناء شماتة «الأميرة نورهان» (سمية الألفى) واليهودى المصرى الأصيل «داود».
- أولاً تداعيات 67 عشتها بنفسى ولم أسأل أحداً عنها. عشت الفترة بكل مرارتها، وأكاد أتذكرها يوماً بيوم. شعبية «عبدالناصر» فقدت قوة الدفع.. ربما. لكنها لم تضعف. الشعب المصرى يجيد الحكم على الناس جيداً، ولم يستطع حاكم فى تاريخ مصر أن يخدع هذا الشعب حتى لو بدا مستسلماً. دعك مما حدث يومى 9 و10 يونيو، فقد يكون تحت تأثير اللطمة المفاجئة. لكن ما قولك فى موقف الناس من جنازة «عبدالناصر»، وموقفهم من جنازة «السادات»؟. الأول «هزمنا» فى يونيو كما يقول القائلون، والثانى «عبر» بنا فى أكتوبر، ورغم ذلك.. شوف الفرق!. الشعب المصرى أجاد الحكم على «عبدالناصر» وعرف مأساته الحقيقية. عرف إنه راجل جدع قوى.. بس يا عينى رسموا له «الخية» ووقع فيها. والمشهد الفاجع يوم وفاته لم يكن تعبيراً عن الحب فقط.. وإنما عن إحساس الناس بأن الرجل الذى كان باستطاعته أن يصلح ما فسد.. مات!. يعنى خلاص.. رحنا فى داهية. ومع ذلك.. لم يخل «ليالى الحلمية» من عبارات تبلغ حد السخرية من «عبدالناصر»، وعلى لسان جميع الشخصيات بمن فيهم «زينهم السماحى» (سيد عبدالكريم). ويوم أخذوا «زكريا» (سيد عزمى) ليلة زفافه ليعتقلوه.. عبر زينهم عن خيبة أمله قائلاً: يا خسارة يا جمال.. ماكانش العشم!.
هذه النغمة تتردد فى المسلسل من وقت إلى آخر لأننى سمعتها. أنا شخصياً كتبت رسالة لـ«عبدالناصر» وقتها (طبعاً لم يقرأها، لأنها بالتأكيد لم تصله) قلت له فيها: «انت جاى دلوقتى تقول مراكز القوى عملت وسوّت.. أمال انت كنت فين؟.. كنت نايم؟». لم أكن أعرف -كمواطن عادى- أن هناك صراعاً بين المؤسستين السياسية والعسكرية، وأن «عبدالناصر» ليس مطلق اليد كما كنا نتصور، وأنه فشل مثلاً فى تغيير قائد الطيران، محمد صدقى محمود، بعد 1956، وعجز عن فصل ضابط صاعقة يسمى جلال هريدى بعد فشل تجربة الوحدة عام 1961. كل ذلك وغيره عرفته فيما بعد. إنما وقتها كان «عبدالناصر» موضع انتقاد الجميع وسخريتهم، وهذا قيل فى «ليالى الحلمية». وإن كنت لم أذكر ما كان يردده بعض الشامتين والكارهين، واكتفيت بما قاله سليم البدرى: «مش هتبطلوا الكلام ده!. انتو لسه بتقولوا نفس الكلام!. مش كفاية اللى حصل!». وهذا يؤكد من ناحية أخرى أن سليم البدرى لم يكن متعاطفاً مع «عبدالناصر»، وإنما مع قضية بلده. فأنا حاولت بشكل صادق وأمين أن أقول كل ما كان يقال.
■ طوال حلقات المسلسل تلح على تبرئة «عبدالناصر» مما حدث، وتلقى بكل التهم والمسئوليات على من حوله. وهناك رأى ماركسى يقول إن هذا التدنى تجاه «الزعيم المعصوم.. ضحية حاشيته الفاسدة» (على حد قولهم).. إنما يعد تعبيراً عن خلل فى الفهم والوعى.. لم ينج منه حتى مثقفو اليسار أنفسهم، والذين أصيب بعضهم بانتكاسة -عقب الهزيمة- وآثر أن يحمل الفروع جرائم يخشى أن يواجه بها الأصول، وانتهى الأمر بتتويج عبدالناصر «إلهاً» فى وجدان الناس. ما قولك؟
- اسمح لى أن أسأل: من الذى صنع من «ستالين» إلهاً؟. أليسوا هم الماركسيين؟. مسألة مهابة الحاكم أو تأليهه فى مصر، تراث لا يخص «عبدالناصر» وحده، لكنه ممتد من أيام الفراعنة. من أيام: «أنا ربكم الأعلى وهذه الأنهار تجرى من تحتى». ورغم ذلك لم يكن هناك تأليه لـ«عبدالناصر» بهذه الطريقة. الناس توحدوا مع «عبدالناصر» منذ أن قال «ارفع راسك يا أخى»، لأن هذا يمثل للشعب المصرى رد اعتبار أو نوعاً من الكرامة التى أهدرتها سنوات طويلة من القهر والخنوع للأجنبى. الشعب المصرى رفع «عبدالناصر» إلى هذه المكانة ليس خوفاً من بطشه، بل لأن هذه إرادته ورغبته. وما يقال عن تأليه «عبدالناصر» لا يعدو أن يكون «ثرثرة ماركسية» عفا عليها الزمن؛ لأنهم فى الحقيقة ناس عجزوا -أساساً- عن تحليل واقعهم وفهم شعبهم، وهذه كارثة اليسار المصرى منذ بدايته. كانوا دائماً يتبنون أكليشيهات جاهزة ويحاولون تطبيقها هنا فى مصر، وهذا سبب انفصالهم عن الناس وبقاؤهم شريحة من المثفقين بلا جذور وبلا تنظيمات فعلية متصلة بالجماهير. طبعاً هناك استثناءات فى طبقة العمال، لكننى أتحدث عن «جسم» الشعب المصرى. متى كان الماركسيون قادرين على التأثير فى هذا الجسم؟. دعك من شماعة التخلف والدين والدعايات المضادة التى تخلط بين الماركسية والإلحاد.. إلخ. فبحكم نشأتهم وتربيتهم، لا يوجد مثقف شيوعى مصرى استطاع أن يشق طريقاً لمبدئه داخل أعماق الناس.
وغداً يتجدد الحوار