فى تسعينات القرن الماضى حضرت مناقشة إحدى رسائل الدكتوراه فى القانون الجنائى بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وكان عنوان الرسالة هو «الحماية الجنائية لأسرار الدفاع». وفى هذه المناقشة أنكر أحد أعضاء لجنة المناقشة على الباحث توسعه فى موضوع رسالته، زاعماً أن الباحث عالج أموراً لا ينطبق عليها مفهوم أسرار الدفاع، لدرجة أن عضو لجنة المناقشة قال بالحرف الواحد إن رسالة الدكتوراه تبدأ من الصفحة مائتين. والسبب وراء ذلك أن الباحث عالج الأسرار السياسية والدبلوماسية وغيرها من الأسرار الأخرى، وذلك قبل أن يتناول الأسرار العسكرية. ويبدو أن عضو لجنة المناقشة كانت لديه فكرة ضيقة عن أسرار الدفاع، وأن هذه الأسرار من وجهة نظره تقتصر فحسب على الأسرار العسكرية.
وقد كان رئيس لجنة المناقشة هو أستاذنا المغفور له بإذن الله الدكتور مأمون سلامة، أستاذ القانون الجنائى ورئيس جامعة القاهرة، والذى وجّه حديثه للباحث منكراً عليه عدم رده على النقد الموجه إلى رسالته، ومشيراً إلى المادة 85 من قانون العقوبات المصرى بنصها على أن «يُعتبر سراً من أسرار الدفاع: (1) المعلومات الحربية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية والصناعية التى بحكم طبيعتها لا يعلمها إلا الأشخاص الذين لهم صفة فى ذلك ويجب مراعاةً لمصلحة الدفاع عن البلاد أن تبقى سراً على من عدا هؤلاء الأشخاص. (2) الأشياء والمكاتبات والمحررات والوثائق والرسوم والخرائط والتصميمات والصور وغيرها من الأشياء التى يجب لمصلحة الدفاع عن البلاد ألا يعلم بها إلا من يناط بهم حفظها أو استعمالها والتى يجب أن تبقى سراً على من عداهم خشية أن تؤدى إلى إفشاء معلومات مما أشير إليه فى الفقرة السابقة. (3) الأخبار والمعلومات المتعلقة بالقوات المسلحة وتشكيلاتها وتحركاتها وعتادها وتموينها وأفرادها وبصفة عامة كل ما له مساس بالشئون العسكرية والاستراتيجية ولم يكن قد صدر إذن كتابى من القيادة العامة للقوات المسلحة بنشره أو إذاعته...». ووجه الاستدلال بهذا النص أن المشرّع قد تبنى مدلولاً واسعاً لأسرار الدفاع، وبحيث لا تقتصر على المعلومات الحربية والأخبار المتعلقة بالقوات المسلحة وتشكيلاتها وتحركاتها وعتادها وتموينها وأفرادها وبصفة عامة كل ما له مساس بالشئون العسكرية، وإنما يمتد كذلك إلى «المعلومات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والصناعية التى بحكم طبيعتها لا يعلمها إلا الأشخاص الذين لهم صفة فى ذلك ويجب مراعاةً لمصلحة الدفاع عن البلاد أن تبقى سراً على من عدا هؤلاء الأشخاص».
والواقع أن البعض ما زال يتصور أن مفهوم الأمن القومى هو مجرد مفهوم عسكرى أمنى، ولم يدرك أنه أحد مفاهيم الفكر السياسى والاستراتيجى. ومنظوراً إلى الأمن القومى على هذا النحو، يمكن القول بضرورة تبنى نظرة ورؤية متكاملة فى الأمن القومى تقوم على المزج بين المفهوم التقليدى للأمن القومى الذى يركز على الموقع ويعتمد على الدفاع عن الدولة باستخدام السلاح والحشود العسكرية، وبين المفهوم الحديث للأمن القومى الذى يولى الاهتمام الواجب بنهضة الأمة وتنميتها فى نفس الوقت انطلاقاً من أن الأمن القومى هو التنمية. وينبغى فى هذا الصدد أن نضع نصب أعيننا تحقيق التنمية بمفهومها الشامل، وبحيث يستوعب التنمية بكافة صورها وأشكالها، يستوى فى ذلك التنمية الاقتصادية والتنمية الثقافية والتنمية الحضارية والمجتمعية (السيد يسين، الأمن القومى والتنمية الثقافية للمجتمع، جريدة الأهرام، قضايا وآراء، 9 أبريل 2015). فالتعريف الذى صاغه «ماكنمارا»، وزير الدفاع الأمريكى الأسبق، لفكرة الأمن القومى قد تجاوزه الزمن، حيث ركز على التنمية فى بُعدها الاقتصادى الذى يتمثل فى رفع مستوى جودة الحياة فى المجتمع بشكل عام، ولم يفطن إلى أهمية الأشكال الأخرى للتنمية مثل التنمية الثقافية والتنمية المجتمعية الحضارية.
من ناحية أخرى، ووفقاً للمدلول الجديد للأمن القومى، لم تعد وسائل الدفاع عن الوطن تقتصر على السلاح التقليدى فى ميدان المعارك والحروب التقليدية، وإنما تمتد إلى وسائل أخرى تتناسب مع الأشكال الجديدة للحروب أو ما يطلق عليه حروب الجيل الرابع. ومن هذا المنطلق يمكن فهم نص المادة 31 من الدستور المصرى الحالى لعام 2014م على أن «أمن الفضاء المعلوماتى جزء أساسى من منظومة الاقتصاد والأمن القومى، وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ عليه، على النحو الذى ينظمه القانون».
وانطلاقاً مما سبق نود أن نؤكد على أهمية الجهود التى تقوم بها الدولة فى القضاء على مشكلة العشوائيات التى تُعد قنبلة موقوتة تهدد الأمن القومى المصرى إذا لم تستمر الدولة فى جهودها للقضاء عليها. كذلك نرى من الملائم أن يبادر البرلمان إلى إقرار مشروع قانون الجرائم الإلكترونية، وذلك حتى يتحقق ما أطلق عليه البعض الظهير الإلكترونى اللازم لمواجهة حروب الجيل الرابع.