الاقتباس عن الغرب ونقل التكنولوجيا الغربية ما زال هو الأسلوب الأكثر تأثيراً لإحداث التقدم فى بلادنا، نقلنا -وما زلنا ننقل- عن الغرب التكنولوجيا المادية فى مجالات الهندسة والطب بفروعها، وعنه نقلنا تكنولوجيا التنظيم الاجتماعى والإدارى، فكانت الجيوش الحديثة تنظيماً واحترافاً، والتعليم الحديث، والجهاز الإدارى، والتشريعات والقوانين المكتوبة عمومية التطبيق، والأحزاب والنقابات؛ ومن الغرب أيضاً وصلتنا أفكار الحرية والديمقراطية والقومية وحقوق المرأة.
لا أزعم أن أشياء شبيهة بكل هذا لم تكن لدينا قبل أن ننفتح على الغرب باختيارنا ورغماً عنا بعد أن فرض الغرب هيمنته على العالم، لكن منظومة الحياة الحديثة فى كليتها ظلت اختراعاً غربياً أردناه لأنفسنا، المشكلة هى أنه فى كل مرة اقتبسنا فيها عن الغرب شيئاً جديداً وجدنا له فى بلادنا أثراً مختلفاً عن أثره فى موطنه ومنشئه الغربى، وبينما يعبر بعض من هذا عن فشل الدول ونخب الحكم فى بلادنا فى بلورة الرؤية ورسم الخطط وإحكام التنفيذ، فإن بعضه الآخر يعكس استحالة استعارة النماذج الحضارية والقيم الثقافية وإعادة زرعها فى بيئة مغايرة، وبين الفشل والاستحالة وقعنا فى منطقة رمادية محيرة، عاجزين عن فك طلاسم حداثة لا فكاك منها، وأسرار مجتمع وثقافة وطنية تتلقف المقبل من الغرب، فتعيد إنتاجه بطريقة لا تتفق مع ما تمناه دعاة الحداثة وأنصار التقدم.
مظاهر الإخفاق الحداثى والنتائج غير المتوقعة للاقتباس عن الغرب فى بلادنا أكثر من أن يتم إحصاؤها، فتقدم فنون الرعاية الصحية فى بلادنا حمى الأفراد من مخاطر الأمراض، فارتقع متوسط عمر الفرد من أقل من 34 عاماً فى ثلاثينات القرن العشرين عندما تم احتساب هذا المؤشر لأول مرة، حتى وصل إلى 71 عاماً فى عام 2015، إنه تقدم مذهل بكل المقاييس، وهو نفس التقدم الذى ساهم فى إدخال هذا البلد فى دوامة التزايد السكانى القادرة على التهام الأخضر واليابس فى ظل موارد المياه والغذاء المحدودة، وفيما لا يمكن التوقف عن الاستفادة من نتائج التقدم الغربى فى علوم الرعاية الصحية لأسباب أخلاقية وسياسية واجتماعية، فإن جعبة الغرب ليس فيها ما يمكنه مساعدتنا على إيقاف الانفجار السكانى، فالمجتمع مجتمعنا، والثقافة ثقافتنا، وما لم نحل مشكلاتهم بأنفسنا فلن يحلها أحد بالنيابة عنا.
اخترع أهل الغرب البيروقراطية الحديثة لتكون موطناً للانضباط والكفاءة والعقلانية الإدارية، واقتبسها عنهم محمد على باشا وخلفاؤه، حملت البيروقراطية المصرية الحديثة عبء قيادة المجتمع نحو التقدم لعقود طويلة، لكنها بمرور الوقت وتراكم أخطاء السياسة فقدت ما كان لها من انضباط وكفاءة وعقلانية، فكفت عن أن تكون أداة للتقدم، وتحولت إلى أكبر جماعة ضغط تقاوم كل ما له صلة بالكفاءة والانضباط، وبدلاً من أن تكون قاطرة للتقدم وأداة له، أصبحت عبئاً عليه، وبالوعة لاستنزاف الموارد المحدودة وتبديدها.
المدينة الأوروبية هى مسقط رأس الحداثة، ففيها ولدت الطبقات الاجتماعية التى خاضت معركة التقدم من طبقات وسطى وعمال ومثقفين، وفيها ازدهرت قيم العلم والحرية والفردية، وفيها تجلت قدرة الدولة والمجتمع على تنظيم حياة الملايين الغفيرة من البشر والارتقاء بها، المدينة المصرية تاريخياً هى مركز للحكم والإدارة، وقد ثبت بعد مائتى عام من التحديث أن تحويل المدينة المصرية إلى موطن للعلم والحرية والإبداع، وإلى نموذج للانضباط والتنظيم الاجتماعى والإدارى الراقى، يحتاج إلى أكثر من بناء أحياء أفرنجية مثل تلك التى بناها الخديو إسماعيل والبارون إمبان، وإلى أكثر بكثير من مستوطنات الأثرياء فى الكمباوندات المنتشرة على أطراف المدينة وفى ضواحيها الجديدة.
التعليم فى بلادنا قصة إخفاق أخرى لقدرتنا على تحقيق التقدم عن طريق الاقتباس من الغرب، المدارس الحديثة والبعثات التعليمية كانت أداة مصر الحديثة للانتقال من جمود القرون الوسطى لرحابة الحياة الحديثة، التعليم فى بدايته كان نخبوياً متاحاً لأقلية من المصريين، فكان عائده كبيراً ورائعاً، ولكن ما إن انتقلنا إلى مرحلة عممنا فيها التعليم على الكافة من المصريين كما فعلت بلاد الغرب بنجاح، حتى اجتاحت مؤسسات التعليم قيم الجماهير الغفيرة المنفلتة، فلا المعرفة مُقدرة ومُحترمة، ولا الاختبارات أداة لفرز نوابغ الطلاب عن عمومهم، «التعليم حق كالماء والهواء» صيحة أطلقها الدكتور طه حسين إيماناً منه بأن نشر المعرفة هو طريق مصر للتقدم والحرية، فتحولت صيحة الرجل على أيدى عموم أولياء الأمور والطلاب إلى «النجاح فى الامتحان والفوز بالشهادة حق لكل طالب»، وفى سبيل الحصول على الحق المزعوم فإن الوسائل كلها أصبحت مشروعة، وبعد أن اجتزنا مراحل الكتب الخارجية والإجابات النموذجية والملخصات الموجزة والدروس الخصوصية، وصلنا إلى مرحلة الغش المعمم باستخدام أحدث منجزات التكنولوجيا الغربية: الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعى.
إنها قصة مجتمع أراد الحداثة، وحصل على قبس منها، لكنه فى النهاية أخفق فى إدارتها، لقد أخفقنا مرتين وليس مرة واحدة، مرة عندما فشلنا فى إحداث التكييف المزدوج المناسب فيما اقتبسناه عن الغرب وما ورثناه من ماضينا، وهذه قصة شرحها يطول، ومرة أخرى عندما فشلنا فى إدارة مجتمع الجماهير الغفيرة والأعداد الكبيرة.. النتاج الحتمى لكل تحديث، فالتحديث الناجح يخلق الجماهير الغفيرة ويزودها بالتنظيم والعقلانية وتعددية الحداثة وسماحتها، فيما التحديث عندنا اكتفى بخلق الجماهير، فكان ما نعانيه من انفجار سكانى وبيروقراطية متضخمة ثقيلة الوطأة، ومدن عشوائية، وتعليم شكلى، وامتحانات مغشوشة، وإنترنت وأدوات تواصل اجتماعى تستخدم لتحقيق أهداف لم ترد على بال مخترعيها.