انتهينا فى الحلقة السابقة إلى أن كل أم فى مسلسل (ليالى الحلمية) تمثل نوعية من أمهات الأسرة المصرية على اختلاف هذه الأسر وتنوع جذورها الطبقية. المسألة تتنوع بينهن على قدر الحاجة التى تفرضها الدراما، أى إن دور كل واحدة فى الأحداث.. مؤثر، إنما من خلال طبقتها وقيمها الخاصة. والمؤكد أن (ليالى الحلمية) حافظ على كون الأم المصرية الوعاء الذى تنتقل من خلاله القيم من جيل إلى جيل. خاصة أن الأم المصرية هى التى تبنى الأسرة وليس الأب، رغم أننا مجتمع أبوى. وكان لأسامة أنور عكاشة رأى آخر: «أنا أعتقد أن هذه مسألة شكلية. نحن فى حقيقة الأمر مجتمع أموى، والسيطرة الحقيقية فيه للأم. وقد قدمت مسلسلاً كاملاً لتأكيد هذه الفكرة هو (الشهد والدموع)».
■ كيف؟
- هناك فارق بين أن تكون الأم مربية وأن تكون مسيطرة. الأم تربى. تنقل قيماً. هذه القيم ظهرت فى شخصية «على البدرى» مثلاً فى فترات الطموح والرومانسية والبراءة. كانت واضحة تماماً فى مثاليته.. فى تعامله مع الواقع.. فى علاقة الحب بينه وبين «زهرة».. فى علاقاته مع أصدقائه.. فى حماسه لخدمة بلده من خلال التنظيم السياسى. هكذا ربته «أنيسة». الانقلاب الذى حدث له كان أقوى من «أنيسة» ومن مصر كلها. هذا انقلاب على مستوى البلد كله، فكان لا بد أن يكتوى بناره، خصوصاً أن على «فيه حتة من أبوه». هذه قوانين الوراثة، وأبوه قال له ذلك: «انت شبهى وبتفكر زيى». الحتة اللى فيه من أبوه.. إيه!.. حتة القدرة على نقل البندقية من كتف إلى كتف. القدرة على التعايش مع ظروف جديدة. «على» لو تماسك كان انكسر، لو كان حاول الصمود وأن يبقى كما كان كان هينكسر أو هيندهس، لأن مفيش مقومات تساعده. هيمسك فى إيه بعد الوقعة السودة اللى وقعها!. إنما بحكم تشابهه مع أبيه استطاع أن يحول موقفه لكى يبقى كبنى آدم. القيم والمبادئ والكلام ده كله فقد الثقة فيه.. فقد الثقة فى كل القيم التى أخذها من خارج «أنيسة». لكنه لم يفقد الثقة فى الأخلاقيات الأولية التى ربته عليها: البراءة والخلق الطيب والقابلية لتصديق ما يقال له. أزمة «على البدرى» أنه صدق ما قيل له وآمن به، لذا فانقلابه على نفسه كان نتيجة حتمية للظروف التى وجد نفسه فيها.
والمواجهة التى حدثت بين «ناجى السماحى» (شريف منير) وأمه أثبتت أن تربيتها هى التى حفظته من الانقلاب الذى حدث لـ«على». لم يتحول ضد ما كان عليه، بل وقف واستطاع فى الفترة التى قلت إنها أقوى من الجميع أن يحمى نفسه. اتشرنق. لم يكن له دور إيجابى.. لكنه لم يسقط. ظل محتفظاً بقيمه التى تربى عليها إلى أن جاء أوانها فى الجزء الرابع من المسلسل.. حيث يتحول إلى صورة من والده «طه السماحى»: روح الاستشهاد موجودة فى داخله. ولم يتصرف فى لحظة ومع أى شخص تصرفاً مناقضاً لما تربى عليه. حتى تصرفه مع ابنة عمه «قمر» (حنان شوقى) لم يخلُ من رومانسية ومثالية غريبة: عندما أحس أنها ميالة للولد التانى أكتر.. خلع الدبلة وسابها.
«عادل البدرى» (هشام سليم) كان باستمرار متمرداً على أمه «نازك السلحدار». لو لاحظت تطوره هتلاقى إنه من أول ما بدأ يكبر وعلاقته بأمه غير جيدة. هو رافض أمه تماماً، ورافض أبوه.. بس بيحبه قوى، فبحث عن سكة ثالثة، عن نموذج مختلف للحياة غير النموذج الذى فُرض عليه فى بيت أمه والنموذج اللى عايشه أبوه.. إزاى؟.. إنه هو يحدف على سكة الفن. إنه يلاقى حل لكل التناقضات التى واجهته من خلال شىء فيه إبداع، يحقق من خلاله ذاته. أراد أن يكون مستقلاً لأنه رافض الاتنين: أمه وأبوه. لذا حقق قدراً من التوازن وكوّن شخصية مختلفة حتى عن شقيقه «على». ورغم محاولات «على» لاستدراجه.. إلا أن موقفه كان دائماً مستقلاً. وأنا أعتقد أن دور «عادل» هو الأصعب فى الرواية لأن الأدوار الأخرى أكثر تحديداً. شخصية «عادل» محيرة.. ندخل لها منين وإيه سكتها؟. لكننى شرحت كل ذلك لهشام سليم. قلت له: «حط فى دماغك إن الواد عادل ده إيه.. وإزاى بيحاول يبنى شخصية مستقلة عن أبوه وأمه». الرغبة فى الاستقلال وتحقيق الذات هى مفتاح هذه الشخصية. والحقيقة أن «هشام» أدى الشخصية بشكل غير مسبوق.
ما حدث لـ«سليم الصغير»، ابن «الأميرة نورهان» (سمية الألفى)، لم يكن ناتجاً عن عيب فى أمومتها، أى فيها كأم، بل عن قيم حاولت أن تربيه عليها. هى بالتأكيد خائفة عليه وتحبه، لكنها إنما على قيم أدت إلى انحرافه. كما أنها غيّبت دور الأب. أبعدت أباه «سليم البدرى» بينما هى مشغولة عنه فى الوقت نفسه بالمعارض والجلوس مع أصحابها.. إلخ. لم يجد ابنها حوله لا أباً ولا أماً حقيقيين. الأمومة مش إنك كل ما تشوف ابنك تبوسه وتديله فلوس.
■ قلت لأسامة: فى أول مواجهة صعبة يخوضها «على البدرى» (كمثال).. انهزمت قيم الأم أمام سلطة الأب الرجل!.
- الأب يملك أساساً المسألة الاقتصادية. هو الذى ينفق على الأسرة، وسلطته هنا لا تُناقش، كما أنه يملك الأهم. يملك القرار باللفظ. يقول: «انتى طالق».. فتتطلق. هذا إرث اجتماعى يفرض ثقله على علاقات الأمومة والأبوة والبنوة وغيرها، لذا حددنا دور الأم بأنها ناقل للقيم والمبادئ، لكنه ليس دوراً سلطوياً.. ما هواش دور قرارات. لا تملك سلطة القرار لأنها هى أيضاً معالة.. عالة على العائل اللى هو الأب اللى بيشتغل وبيجيب القرش. فالأب يملك السلطة الاقتصادية ويملك القرار ويملك أن ينفذه، ويملك دوراً تساعده عليه موروثات دينية واجتماعية، زى سلطة الطلاق. إذاً السلطة غير التربية.
■ لكن الأم صانعة القرار.. هى التى تصنع رجلاً وتقدمه للسلطة.
- هى لا تربى دوراً سلطوياً. دورها مقصور على نقل قيم ليس من بينها التمرد على السلطة أو ترك السلطة للأم، بالعكس هى تربيه على تقديس دور الرجل.. أهمية وسطوة الرجل فى الأسرة. هى تربى أبناءها على أساس أن الولد متميز.. «عيب يا بت ماتكلميش أخوكى بالطريقة دى. أخوكى من حقه يمنعك من الخروج».. وهكذا تكرس سلطة الرجل.
.. وغداً يتجدد الحوار