لم تكن «ليالى الحلمية» نصاً والسلام، بل تطورت لدرجة أنها أصبحت «حالة» بالنسبة للممثلين. هناك تاريخ طويل لكل شخصية عبر الأجزاء الثلاثة السابقة. هناك أيضاً حالة الانتشاء بالنجاح الجماعى، التى جعلت الممثلين فى سباق مع أنفسهم ومع الآخرين لتأكيد هذا النجاح. لقد كان الأداء فى المسلسل ملفتاً للنظر: طاقات جبارة تجادل نصاً محكماً وبسيطاً إلى حد الغيظ.. لمن كانت الغلبة يا أستاذ أسامة؟
- أنا لا أتصور ممثلاً مهما بلغت عبقريته يستطيع أن يكون جيداً فى نص ردىء. مستحيل. الممثل يفقد مع الورق الردىء أهم ما يستدعى أدواته كممثل، وهو ما يسمى باللغة الأكاديمية أو المدرسية لفن التمثيل: «الدخول فى إهاب الشخصية». إذا كانت الشخصية مرسومة على الورق بشكل سيئ فلن يجد الممثل مفتاحاً أو مدخلاً لها، ومن ثم يلوذ بما أسميه «الأداء الخارجى أو النمطى». هذا الأداء لا يعطى للممثل فرصة لإطلاق كل طاقاته. والعكس عندما تكون الشخصية مرسومة بشكل جيد.
* على ذكر الشخصية المرسومة يأتى الحديث -مرة أخرى- عن «سليم البدرى»: كان واضحاً أنك وضعت فى هذه الشخصية ثلاثة أرباع ما تعلمته فى الدراما، لا لشىء إلا لتقول إن «سليم» نموذج لـ«الرأسمالى» الذى تحتاجه مصر، ما كل هذا الإعجاب؟
- أولاً.. من هو سليم البدرى؟. هو ممثل الرأسمالية المصرية. هذا واضح من الجزء الأول. مالناش دعوة بالإقطاع. مالناش دعوة بالباشوات «الوحشين» الذين كانوا يضربون الفلاحين بالكرابيج ويغتصبون بناتهم، لأن هذا نوع من الـ«ستريو تايب»، عولج فى أعمال كثيرة عقب ثورة يوليو مباشرة وكان الغرض منه تكتيل مشاعر الناس فى اتجاه أهدافها وأحلامها إلى حد أصبحت كلمة «باشا» مرادفاً لسلوكيات وأنماط من البشر مكروهين ومتجبرين و«أولاد ستين كلب»!. عندما كتبت «الحلمية» حاولت قدر جهدى أن أفلت من هذه المصيدة. لم أكن أريد الباشا على طريقة «زكى رستم»: الباشا النمطى بتاع الأفلام المصرية. أردت أن أكتب عن باشا يمثل طبقة. وتعمدت أن يكون «سليم» من أسرة صغيرة فى الأصل. وقلت فى الجزء الأول إن جده كان عاملاً فى أول ترسانة أنشأها محمد على، ومن ثم فأصوله الأسرية لا هى أرستقراطية ولا هى منتمية للأتراك.. بالعكس: هى أصول مصرية عمالية. والسؤال: كيف تكونت ثروات هؤلاء الناس؟. «إسماعيل البدرى» -والد سليم- لم يكون ثروته من عمل طفيلى أو بالنهب، بل هو رجل أرسى صناعة لها فى مصر تاريخ طويل ومهم هى صناعة الغزل والنسيج. ودوره كان ككل المصريين الذين أسهموا فى بناء اقتصاد مصرى سليم.. صح!. لا يهمنى أن ثورة يوليو جاءت بعد ذلك واختلفت مع هؤلاء الناس وأممتهم، ولا يهمنى إن كان ذلك قراراً صائباً أم خاطئاً، فنحن نعرف أن من أهم أخطاء الثورة أن قرارات التأميم شملت رجلاً مثل «سيد ياسين»، وفشلت صناعة الزجاج فى مصر لهذا السبب. هناك عناصر من هذه الطبقة قدمت للرأسمالية المصرية وللصناعة المصرية خدمات عظيمة. طلعت حرب وسيد ياسين وفرغلى باشا ليسوا باشوات بقدر ما هم رجال اقتصاد وطنيون، وكذلك سليم البدرى. رجل مرت به كل هذه الأحداث وظل قابضاً على حلمه القديم، وهو حلم شخصى بحت. يقول لابنه «على» فى بدايات الجزء الرابع: «أنا راجل بتاع قماش مش فرارجى». كان لا بد أن يكون سليم بهذه الصورة التى يجب أن نتفق عليها ما دمنا طلّقنا الاشتراكية واعتمدنا أسلوب السوق. وكان علينا أن نختار بين نموذجين للرأسمالى: نموذج ما قبل الثورة، وهو الأصح لأنه يمثل رأسمالية منتجة، ونموذج الانفتاحى الذى يتاجر «فى الهوا»، ويعتمد أسلوب السمسرة والهبش، وهو النموذج الذى شوه العشرين عاماً الأخيرة. كان لا بد من وجود هذا وذاك لأقول فى النهاية، وأجعلك تقول: من هو الرأسمالى الذى تحتاجه مصر هذه الأيام!. نحن نحتاج إلى رأسمالى «ماركة سليم البدرى»: ليس دفاعاً عن سليم كممثل للباشوات أو الإقطاع أو الرأسمالية المستغلة كما سماها الميثاق، بل دفاعاً عن أمر واقع كان موجوداً قبل الثورة. ما دامت العجلة دارت إلى الوراء فلا بد أن يكون هذا هو الخيار، وأن يكون سليم البدرى هو المثال الذى نحتذيه. وأعتقد أن شخصية سليم كانت من الغنى والثراء (ليس المادى) بحيث لم يكن ممكناً أن تتحول إلى نمط، بل مزيج من كل حاجة.
وغداً يتجدد الحوار