بقالي 4 سنين مش بتفرج على التليفزيون لا في رمضان ولا في غيره، مش بس عشان معنديش وقت لكن كنوع من المقاطعة للتدني السنوي الواضح في المحتوى المقدم على الشاشة الصغيرة، إيه الممتع في عشرات المسلسلات المبالغ في إنتاجها التي تكاد تخلو من أي قيمة مضافة أو هدف، وفي الوقت نفسه مليانة عنف وعري وسب صريح.
جيلنا من مواليد الثمانينات يعتبر أكتر جيل شهد على انحدار مستوى الفنون والأدب في مصر، بالرغم من إننا ما عاصرناش ازدهار الإنتاج السينمائي زمان أيام ما كانت مصر زي هوليوود وأكتر، وكانت السينما تاني أهم مصدر للدخل القومي المصري بعد محصول القطن، لكن سمعنا وعارفين يعني إيه فن في مصر في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات. الفن في مصر كان صناعة بجد، كانت كل تفصيلة في العمل الفني مهمة من أول النص والتمثيل والإضاءة والملابس لغاية التسويق والدعاية للعمل.
ومع بداية السبعينيات وانتشار التليفزيون في البيوت المصرية لأصحاب الطبقات العليا والمتوسطة، ظهرت المسلسلات والسهرات التليفزيونية، واللي ظهر معاها فنانين كبار في التمثيل التليفزيوني والكتابة والإخراج، وظهر كمان فنون جديدة جميلة وممتعة زي فن "التترات" وكان فن حقيقي له كيانه و"اللعيبة" بتوعه، وبيعتبر عنصر فني قوي ومؤثر مش "كمالة" للمسلسل، التتر كان قطعة إبداعية مستقلة بذاتها بيقدمها أهم الشعراء وأعظم الملحنين.
فنلاقي مثلا سنة 1979 أنتج مسلسل بيحكي قصة عميد الأدب العربي طه حسين وكان إسمه مسلسل "الأيام"، وبعيدا عن الأداء العبقري للراحل "أحمد ذكي"، التتر كان لوحة فنية حقيقية لحنها –الله يرحمه- عمار الشريعي وغناها المدهش "علي الحجار"، وكتب كلماتها عمنا "سيد حجاب" وكان بيقول:
دوامة سودة ودايرة تحت وفوق * والدنيا بحر غويط وعالي الموج
لكن ما دام في القلب حب وشوق * مهما ميزان الدنيا كان معوج
لا بد يوم يصفى الزمان ويروق
ودي حكمة الأيام
إيه الروعة والحلاوة والعظمة دي! إيه الفلسفة دي كلها يا عم (سيد)!
استمر التتر فنا عظيما، وجت فترة الثمانينيات والتي تعتبر طفرة حقيقية في فن التترات، وكان نتاجها عشرات –ويمكن مئات- من المسلسلات العظيمة وتتراتها اللي منها مسلسل "دموع فى عيون وقحة" سنة 1980 اللي ألف موسيقاه العبقري "عمار الشريعي"، وجايز بسبب نجاحه ساعتها في مسلسل له طبيعة مثيرة عن البطولة والجاسوسية خلته بعدها بـ9 سنين يتحفنا بتتر عظيم تاني لمسلسل جديد باسم "رأفت الهجان"، لكن عمار الشريعي زي ما كان بيلعب فرداني بالموسيقى بس، كان برضه بيجيب أجوال مع الشعرا الكبار والمطربين، يعني عندنا مثلا تتر مسلسل "رحلة السيد أبو العلا البشري" اللي أنتج سنة 1985 وغناه علي الحجار، من كلمات الخال عبدالرحمن الأبنودي، اللي أبدع لما قال:
ما تمنعوش الصادقين عن صدقهم
ولا تحرموش العاشقين من عشقهم
وإذا كنا مش قادرين نكون زيهم
نتأمل الأحوال، وندرس الأفعال
يمكن إذا صدقنا نمشي في صفهم
هو فيه حلاوة أكتر من كده! سيد حجاب وعبدالرحمن الأبنودي بجد؟، معقول أهم 4 أو5 شعراء في آخر 50 سنة كانوا بيكتبوا "تترات مسلسلات"؟، متخيلين قد إيه ده كان فن مهم؟.
سنة 1987 كان إنتاج أول أجزاء عبقرية "ليالي الحلمية" وغنا تتراتها بسحر غريب محمد الحلو ولحنها ميشيل المصري، من كلمات عمنا سيد حجاب اللي قدملنا وصلة حياتية فلسفية ولخص كل المشاعر الإنسانية في 4 جمل بشكل مدهش لما قال:
ومنين بيجي الشجن .. من اختلاف الزمن
ومنين بيجي الهوى .. من ائتلاف الهوى
ومنين بيجي السواد .. من الطمع والعناد
ومنين بيجي الرضا .. من الإيمان بالقضا
في سنة 1988 كان إنتاج مسلسل رومانسي وطل ساعتها علينا الصوت الجديد حنان ماضي، في دويتو ناعم جدا مع المبدع علي الحجار، وغنوا على أنغام عمر خيرت الملائكية تترات مسلسل "اللقا التاني"، اللي كتب كلامه طبعا عمنا سيد حجاب اللي كان بيقول:
ولما تتلاقى الوشوش مرتين .. ما بيتلاقوش يوم اللقا تانيعمر الوشوش ما بتبقى بعد السنين .. نفس الوشوش دي بتبقى شيء تاني
يعني مش بس (عمار الشريعي) اللي كان "هداف" التترات، لأ ده الموسيقار عمر خيرت كمان كان في الملعب. والحقيقة إن المطربين علي الحجار ومحمد الحلو كانا لهما نصيب الأسد من أعظم تترات الثمانينيات والتسعينات، فنلاقي سنة 1990 غنا الحلو تتر مسلسل مهم اسمه "الوسية" من ألحان ياسر عبدالرحمن، وكلمات سيد حجاب، واللي "كالعادة" بيقدم فلسفة عظيمة في 3 أو4 جمل يخلوا التتر ينفع يتقلب كتاب أو رواية:
وتستمر الحياة بين ابتسامة وآه.. فيها اللي تاه في دجاه.. واللي ضميره هداه
وكل ضيقة وبعدها وسعة.. وأهي دي الحقيقة بس منسية
وكلنا ولاد تسعة وبنسعى ودي مش وسية الناس سواسية
سنة 1991 كان من السنين المميزة في مسيرة فن التترات وفي حياة عشاق عمر خيرت، اللي ألف سنتها تترين لمسلسلين مهمين هما "البخيل وأنا"، و"ضمير أبلة حكمت"، واللي لغاية دلوقتي بنستمتع جدا بسماعهم في حفلاته وهو بيعزفهم على البيانو.
وسنة 1992 كان أهم تتراتها مسلسل "بوابة الحلواني" لما اجتمعت ألحان العبقري بليغ حمدي مع كلمات سيد حجاب اللي قدملنا واحدة من أهم القصايد الوطنية التي اتكتب عن مصر واتحولت كلماتها لمصطلحات دارجة في قاموس رجل الشارع، وكان بيقول:
بندق ندق بوابة الحياة بالإيدين قومي.. قومي.. قومى افتحي لولادك الطيبين.. قومي.. قومي
واللي بنى مصر كان في الأصل حلواني.. وعشان كده مصر يا ولاد حلوة الحلوات
يا خبر أبيض! بليغ حمدي بيلحن كلام سيد حجاب مفيش أجمل من كده!، وطبعا تتر "بوابة الحلواني" غناه علي الحجار، اللي غنا في نفس السنة باللهجة الصعيدي تتر مسلسل "ذئاب الجبل" من كلمات الخال عبدالرحمن الأبنودي، وموسيقى وألحان د.جمال سلامة:
وخاصمني يا زماني وارجع صالحني تاني، نسيني للي جرالي من عمري الأولاني، ومن المسلسلات اللي ما ينفعش نتكلم عن فن التترات وما نتكلمش عنه تتر مسلسل "المال والبنون" اللي أنتج جزؤه الأول سنة 1993 والثاني سنة 1995:
بحلم وافتح عينيا على جنة للإنسانيةوالناس سوا بيعشوها بطيبة وبصفو نيةأحلامي تصلبلي ضهري ويروق ويصفالي دهريويلالي زهري وجواهري لكل ناسي وليا
وطبعا من غير ما نقول أكيد باين إن الكلام الحلو ده كتبه سيد حجاب ولحنه ياسر عبدالرحمن، وغناه الحجار مع حنان ماضي، سنة 1993 برضه كان فيه تتر مهم اسمه "من الذي لا يحب فاطمة" من ألحان ميشيل المصري، وغناه محمد ثروت، وكلمات سيد حجاب اللي كتب بعدها بسنة تتر مسلسل "أرابيسك" سنة وغناه حسن فؤاد، وكان بيقول:
وينفِلِت من بين إيدينا الزمان كإنه سَحبة قوس في أوتار كمانوتنفرط الأيام عود كهرمان يتفرفط النور والحنان والأمان
وكتب كمان في نفس السنة تتر مسلسل "العائلة".. والاتنين كانوا من ألحان الموسيقار "عمار الشريعي".
استمر الحال في التسعينات بالشكل ده ما بين مسلسلات بتترات موسيقية غير مغناه زي موسيقى "لن أعيش في جلباب أبي"، اللي ألفها حسن أبوالسعود، وتترات في شكل أغاني عظيمة.
يعني مثلا سنة 1997 شهدت إنتاج مسلسلين مهمين جدا يشتركان في كذا صفة أولهم إن الاثنين كان فيهما مجموعة كبيرة من نجوم الصف الأول، والصفة التانية هي أن المسلسلين اتعمل منهم جزئين، أول مسلسل كان باسم "زيزينيا" وعمل لحن التتر العبقري عمار الشريعي، وغناه محمد الحلو، من كلام الفاجومي المصري أحمد فؤاد نجم، اللي قال عن إسكندرية حبيبته ومعشوقته:
إسكندرية تاني وآه م العشق ياني
والرمل الزعفراني ع الشط الكهرماني
والسحر اللي احتويته والبحر اللي احتواني
والبحر أبو ألف موجه والموجة بألف حالة
وأنا المغرم صبابة بإسكندرية يابا
وفكرة كوني أنسى في حكم الاستحالة
أما المسلسل التاني فهو "هوانم جاردن سيتي" واللي كان تحفة حقيقية من ألحان الموسيقار العبقري راجح داوود، والأداء الاستثنائي لـ"هدى عمار" من كلمات سيد حجاب، مين فينا ينسى جملة:
يا روايح الزمن الجميل هفهفي .. وخدينا للماضي وسحره الخفي
ورفرفي يا قلوبنا فوق اللي فات .. وبصي للي جاي وأنت بترفرفي
بداية الألفينات شهدت تراجع نسبي في عدد الأفلام السينمائية المنتجة سنويا وبالتالي زيادة ملحوظة في عدد المسلسلات لكن للأسف بدأ الاهتمام بالتترات يقل تدريجيا اللهم إلا "الفراودة" من الشعراء والملحنين اللي عطائهم فضل مستمر حتى لو كل سنة أو اتنين مرة، وكان أكرمهم إنتاجا عمار الشريعي، اللي لحن تتر مسلسل "أوبرا عايدة" سنة 2000 من كلمات سيد حجاب، وأداء الصوت الأوبرالي القوي عفاف راضي، ولحن كمان تتر مسلسل "حديث الصباح والمساء" سنة 2001 و"ريا وسكينة" سنة 2005 وغناه خالد عجاج من كلمات عم أحمد فؤاد نجم.
وطبعا الموسيقار ياسر عبدالرحمن، اللي اشتهر بالتترات الموسيقية المميزة زي موسيقى مسلسل "الضوء الشارد" سنة 1998 ومسلسل "الليل وآخره" و"فارس بلا جواد" سنة 2003، ومن التجارب المميزة في نفس السنة كان تتر مسلسل "مسألة مبدأ" اللي اشتهر بألحان عمر خيرت، وغناء علي الحجار، وكلمات عبدالرحمن الأبنودي، اللي قدملنا لوحة من التفاؤل ودرس في الإيمان لما قال:
خايف من بكرة ليه.. مين يعرف بُكره إيه
أنا مُش هبُص ورايا ولا أقول آه
مهما الأمل غاب العيون شايفاه
اليأس مُش هيوصلك ولو الهموم هتحصلك
مُش راح توقف الحياة
التترات دي ماهي إلا عينة عشوائية، نموذج للفن المصري والإبداع اللي للأسف بيمر بأسوأ مراحله حاليا.
ما نقدرش ننكر إن ما زال هناك أمل في مجموعة من الملحنين اللي بيحاولوا يقدموا موسيقى في التتر مختلفة ومميزة سواء في السينما أو في التليفزيون زي خالد حماد، والشاطر جدا تامر كروان، وطبعا عمرو إسماعيل وعادل حقي، وبعض الشعراء اللي بيهتموا بالتتر وبيعتبروه عمل فني في حد ذاته مش مجرد نكتة أو تمهيد للحلقة أو 5 دقايق بنقول ونعيد فيهم اسم شخصية البطل بـ"إفيه" ظريف يعلق مع الناس لكن دول قليلين جدا، وعشان كده دايما جيل الثمانينيات عنده حنين لتترات المسلسلات.