لا تعرف السياسة الأحكام النهائية الباتة، فأعداء الأمس أصدقاء اليوم، والعكس صحيح، فقط تحكمهم المصالح. كما لا تعرف الدول الجادة فى تنمية حاضرها ومستقبلها كلمة «مصالحة»، بل تؤكد دوماً مفهوم المواطنة القائم على قوة القانون وهيبته لتحقيق المساواة فى الحقوق والواجبات للجميع. لذا لم تدهشنى تصريحات رئيس الوزراء التركى يلدريم الأخيرة بشأن ضرورة عودة العلاقات مع مصر بعد كل ما قامت به تركيا طوال السنوات الأخيرة وإيوائها كل من يهاجم بلادى، بل لفت نظرى لها تواكبها مع ما أعلنه المستشار العجاتى وزير العدالة الانتقالية عن ضرورة التصالح مع الإخوان، وما نشرته «إيكونوميست» البريطانية من سعى الإخوان للتصالح مع الحكومة المصرية. هنا وجب الفهم.
تعانى تركيا الآن من تراجع غير مسبوق فى السنوات العشر الأخيرة من صعوبات اقتصادية يقودها تراجع نسب السياحة فيها بنحو 40% فى عدد السائحين وفقاً لما ذكرته تقارير السياحة الدولية مؤخراً، بالإضافة إلى تراجع حجم التجارة مع دول المنطقة وروسيا، التى كانت تعد السوق الأولى للمنتج التركى. ويزداد الأمر مع مصر التى كانت تعول عليها تركيا لتكون مفتاحها إلى أسواق أفريقيا. أما على الناحية السياسية، فلم يعد خافياً حجم الانتقادات للسياسة الخارجية التركية على مستويات إقليمية ودولية، أو عدد حوادث الإرهاب التى تتعرّض لها المدن التركية نتيجة سياسات حزب العدالة والتنمية التركى. إذاً لا خلاف أن تركيا بحاجة إلى الخروج من مأزق السياسة والاقتصاد بطرح رؤية سياسية جديدة لعلاقاتها الخارجية مع دول عدة، من بينها مصر، فى ظل عدم نجاح ما خططت له طوال عامين كاملين لإنهاك الدولة المصرية وإسقاطها بكل الطرق وفقاً لما يتم الاتفاق عليه مع مخابرات الغرب. لكن المصالحة مع مصر ستتطلب ثمناً أشك فى قدرة الأتراك على دفعه، إلا إذا...؟ والثمن هو ملف الإخوان المقيمين فى تركيا يهاجمون مصر، ويُخططون ضدها.. إلا إذا تصالح الإخوان مع الحكومة المصرية.
نقف هنا عند تقرير «إيكونوميست» البريطانية التى أكدت الأسبوع الماضى سعى الإخوان للتصالح مع الحكومة المصرية بعد أن عجزوا طوال عامين فى استعادة ما فقدوه فى 30 يونيو 2013 ونبذ المصريين لهم وإسقاطهم وهم خلافتهم شعباً وجيشاً. بالإضافة إلى أزمة الانشقاق داخل «التنظيم»، لا لخلاف فكرى، لكن لخلافات القيادة، وما يتم اتخاذه من قرارات -كما ذكر التقرير- وهو ما دفع بالإخوان إلى التباحث مع وسطاء لدراسة إمكانية المصالحة مع الحكومة المصرية للعودة لممارسة الحياة السياسية والاقتصادية إلى ما كانت عليه قبل 2011. سلوك يعبر عن مبدأ التُقية الشيعى الذى يمارسه الإخوان لتدارك المصالح، ويبقى فى إطار المحاولات من جانب الإخوان، إلا إذا قبلته الحكومة المصرية!
نقف هنا عند تصريح المستشار العجاتى، وزير العدالة الانتقالية، الذى صرّح بأن الدستور المصرى ينص على المصالحة! وأسأل الوزير المسئول: لماذا توقفنا عند الإخوان فقط فى مسألة المصالحة الشعبية التى تتحدث عنها؟ على سبيل المثال هناك خلافات مع السلفيين ورفض لأسلوبهم وطرق تعاملهم مع الواقع المصرى وفقاً لمصالحهم ورؤاهم الفاسدة، فماذا عنهم؟ وهناك خلاف واضح مع بعض رموز «مبارك» ممن اتهموا باستغلال النفوذ والثروات ولا يتقبّلهم الشعب، فماذا عنهم؟ ثم ألم يكن أجدى لك كوزير للعدالة الانتقالية أن تتحدث عن دولة المواطنة لا دولة المصالحة وأنت أدرى بالفارق بينهما لتضمن حقوق الجميع وواجباتهم أمام الدولة أياً كانت عقيدتهم أو انتماءاتهم؟ لماذا توقفت عند الإخوان فقط؟ ثم هل ترانا نسير فى الشوارع نذبح من نشتبه فى إخوانيته أم العكس هو الصحيح، حيث يقومون بقتل أبنائنا من جيش وشرطة؟ أم أن التصالح المعروض سياسياً، وهو مرفوض أيضاً، وتخسر الدولة إن لجأت إليه؟
لذا نقول لمن يطلب المصالحة لا سيادة القانون.. هل نصالح فيمن يكن الكراهية للشعب والدولة؟ هل نصالح من اغتال أبناءنا؟ هل نصالح فكرة وعقيدة لن تتغير؟ أم نطبّق عليهم القانون تماماً، كما فعلت ألمانيا مع النازيين؟ سؤال لمن يُخطط للمصالحة.