حملة الترويج للاستثمار فى الصناعة هى أحدث الإجراءات الحكومية الموفقة لتسريع نمو الاقتصاد المصرى. فى البداية كان قرار البنك المركزى والحكومة بتخصيص مائتى مليار جنيه لتمويل المشروعات الصغيرة بفائدة منخفضة قدرها 5 بالمائة سنوياً. ثم صدرت قرارات تنظيم الاستيراد وتعديل التعريفة الجمركية لإنهاء عصر الاستيراد الرخيص والسلع المستوردة منخفضة الجودة، وهى قرارات بقدر ما تحمى المستهلك المصرى من فوضى الاستيراد، وبقدر ما تخفف الطلب على العملة الأجنبية الشحيحة، فإنها أيضاً توفر الحماية لمنتجات مصرية بديلة، وتشجع الصناع المصريين على الدخول والتوسع فى مجالات الاستثمار الصناعى. وبعد هذا جاء قرار تخصيص عشرة ملايين متر مربع للاستثمار الصناعى بنظام حق الانتفاع ليحل مشكلتى نقص الأراضى المخصصة للاستثمار الصناعى وارتفاع تكلفتها، وهما المشكلتان اللتان عطلتنا التوسع فى الاستثمار الصناعى طوال العقود السابقة. وأخيراً وبعد وضع الأساس لتسريع النمو الصناعى، جاءت الحملة الترويجية لتشجع صغار المستثمرين للاستفادة من الإمكانيات التى أصبحت متاحة.
حزمة الإجراءات هذه تمثل الأساس لما يمكن اعتباره سياسة تنمية صناعية مكتملة، وهى السياسة التى افتقدناها لعقود طويلة. ففى الستينات كانت لدينا سياسة صناعية تعتمد على القطاع العام، وهى سياسة لها ما لها وعليها ما عليها، ولكنها فى كل الأحوال انتهت بسياسات الانفتاح الاقتصادى فى السبعينات. منذ ذلك الحين لم تطور أى حكومة مصرية سياسة صناعية تعتمد على الاستثمار الخاص، وكانت النتيجة بطء النمو الصناعى، وزيادة الاعتماد على الخارج فى توفير احتياجات المستهلكين المصريين، وأعلنت الحكومات المصرية الاقتصاد المصرى اقتصاداً للخدمات، ولم يكن هناك قصر للنظر وضيق للأفق أكثر من هذا.
حدث ذلك فى زمن ازدهار السياحة والوفرة المالية الذى لا يمكن قبوله مبرراً لإهمال التنمية الصناعية. الإمكانيات السياحية لمصر كبيرة ويجب الاستفادة منها لأقصى قدر ممكن، غير أن احتياجات مصر ذات التسعين مليوناً كبيرة جداً، ولا يمكن لبلد بهذا الحجم أن ينهض اعتماداً على السياحة وحدها. ففى بلد يحتاج لتوفير ما يقرب من مليون فرصة عمل جديدة كل عام يصبح الاعتماد على قطاع الخدمات وحده نوعاً من العبث وضيق الأفق منقطع النظير، وإذا أضفت إلى هذا حساسية قطاع السياحة المفرطة للتقلبات السياسية والأمنية فى شرق أوسط لم يعرف أبداً استقراراً حقيقياً، ولن يعرفه لزمن طويل مقبل، فإن حدود الاعتماد على السياحة كقاطرة للنمو الاقتصادى يصبح أكثر وضوحاً وجلاء، وهو المأزق الذى دخلنا فيه منذ أزمات الربيع العربى المزعوم.
تصنيع مصر هو الفريضة الغائبة التى تم إهمالها لعقود طويلة، ففى بلد يعانى من نقص المياه، وتضيق فيه الرقعة الزراعية فى مواجهة معدلات النمو السكانى العالية، فإن الصناعة، والصناعة وحدها، هى المخرج الحقيقى. المسألة لا تتعلق فقط بضيق فرص التنمية الزراعية، وإنما تتعلق أيضاً بضرورات إخراج عموم المصريين من الفقر، بما يعنى ضرورة تحويل أعداد متزايدة منهم بعيداً عن القطاع الزراعى ذى الإنتاجية المنخفضة والعائد المحدود، خاصة فى ظل تفتيت الملكية الزراعية وكثافة العمالة الزراعية وسكان الريف. فانخفاض الإنتاجية والعائد فى القطاع الزراعى هو أصل مشكلة الفقر المزمن فى مصر، وليس من قبيل المصادفة أن تكون المحافظات المصرية الأكثر فقراً هى أكثرها اعتماداً على الزراعة، وأقلها فى حجم الأنشطة الصناعية.
البراميل والسوست والزراير والمسامير، هى المنتجات التى تم استخدامها فى حملة الترويج للاستثمار الصناعى، وهى مجرد نماذج لقائمة طويلة من المنتجات التى نستوردها من الخارج رغم توافر القدرة على إنتاجها محلياً. لو أحصى كل منا الأشياء الموجودة فى بيته وفى مكتبه لتكونت لدينا قائمة طويلة جداً من المنتجات المستوردة التى يمكن إنتاجها محلياً. الأحذية الرياضية، الشباشب، أمواس وماكينات الحلاقة، إبر الخياطة، الخيوط، الملابس، الولاعات، فيش الكهرباء، الحقائب، إطارات النظارات وعدساتها، الأقلام والألوان، الدباسات والخرامات، الأساتك، شرائط اللصق، أطعمة القطط والكلاب، لعب الأطفال. كل هذه، وغيرها الكثير، منتجات لا تحتوى على مكون تكنولوجى عالٍ، ويمكن لأى فنى أو مهندس مصرى الشروع فوراً فى إنتاجها بعد بحث وتحضير محدود وغير معقد.
لا يوجد ضمن هذه القائمة الطويلة من المنتجات ما يمكن له أن يمثل خطراً داهماً على صحة الإنسان وسلامته حتى لو لم يكن بالجودة الكافية. غياب أو محدودية الأثر السلبى على صحة الإنسان وسلامته يتيح للحكومة الحد من القيود الرقابية المفروضة على مثل هذه المنتجات، بحيث نقلل الأعباء الإدارية التى يتحملها المستثمرون، فيدخلون بسرعة فى مرحلة الإنتاج والتسويق، وتقل التكلفة الإدارية التى يتم تحميلهم بها. ولعل الحكومة تقوم بتطوير قوائم بالمنتجات المختلفة بحيث يخضع كل منها لإجراءات رقابية مختلفة تتناسب مع المخاطر التى تنطوى عليها عملية إنتاج واستهلاك كل منها، بدلاً من الإجراءات الموحدة الطويلة والمعقدة التى يتم تطبيقها على كل المنتجات فى الوقت الراهن.
قد تخرج المنتجات المصرية الجديدة بجودة محدودة فى أول الأمر، لا بأس، فتحسين الجودة هو عملية مستمرة يكتسبها المنتجون تدريجياً، ولا يمكن للجودة أن تتحسن بغير بداية متواضعة. ومن الناحية الاقتصادية فإن سوقاً كبيرة وفقيرة كالسوق المصرية يمكنها استيعاب كميات هائلة من المنتجات منخفضة الجودة والسعر، وبدلاً من أن يستفيد من هذه السوق الكبيرة المنتجون الصينيون فلنتح الفرصة للمنتجين المصريين، فهم أولى ببلدهم وسوقها. أما الميسورون من المصريين، فلهم تحمل التكلفة المرتفعة لمنتجات مستوردة عالية الجودة، حتى يأتى زمن يرتقى فيه المنتجون المصريون بمنتجاتهم، ويصبح اقتصادنا اقتصاداً طبيعياً ينتج ويصدر ويستورد بشكل طبيعى، دون أن يكون مكبساً لنفايات الصناعة فى بلاد لا تمتاز عنا فى شىء سوى فى رشادة السياسات الحكومية.
قد تخرج المنتجات المصرية الجديدة بجودة محدودة فى أول الأمر لا بأس فتحسين الجودة هو عملية مستمرة يكتسبها المنتجون تدريجياً ولا يمكن للجودة أن تتحسن بغير بداية متواضعة ومن الناحية الاقتصادية فإن سوقاً كبيرة وفقيرة كالسوق المصرية يمكنها استيعاب كميات هائلة من المنتجات منخفضة الجودة والسعر