التعامل بالنقود الكاش هو أحد أهم أسباب كثير من مشكلاتنا، ولا بد من التعامل مع هذه المشكلة فوراً. الموضوع ليس عويصاً، فكل المطلوب هو مجموعة من التشريعات المدروسة جيداً، ويتم تنفيذها تدريجياً حتى يعتادها المجتمع، وحتى لا تسبب اختناقات فى الأسواق والاقتصاد.
جميع المدفوعات والمعاملات التجارية فى مصر يمكن إتمامها عن طريق الدفع الكاش. ليس مستغرباً فى مصر أن تجد مواطناً يحمل حقيبة سفر كبيرة بها عدة ملايين من الجنيهات فى طريقه لدفع ثمن قطعة أرض اشتراها. التعاملات النقدية تفتح الباب لكل الأنشطة المخالفة للقانون من غسيل الأموال لتجارة المخدرات وصولاً للتهرب الضريبى. تطبيق القانون فى حالات كثيرة يتحول إلى مهمة مستحيلة بسبب الدفع الكاش. خذ مثلاً القوانين التى تضع سقفاً للنفقات الانتخابية، ففيما يلتزم المرشحون بفتح الحسابات والإنفاق منها، فإن الجزء الأكبر من النفقات الحقيقية للحملات الانتخابية يتم عن طريق الكاش خارج الحساب البنكى، وهو ما يصعب على أى تحقيق إثباته. قوانين الضرائب تتحول إلى نصوص غير قابلة للتطبيق بسبب انتشار التعاملات النقدية، فلا دخل يمكن إثباته ولا ثروة يستحيل اصطناع مصدرها.
الحكومة هى أكبر مشترٍ وأكبر بائع فى السوق، ولو رفضت الحكومة التعامل بالكاش فى كل معاملاتها التى تزيد على مبلغ معين، ألفين جنيه مثلاً، لأجبرت جزءاً كبيراً من المواطنين على التعامل بأساليب أخرى خلاف التعامل النقدى. استخدام التحويلات والشيكات البنكية لدفع الضرائب والجمارك ومقدمات وأقساط الشقق التى تبنيها الحكومة والأراضى التى تبيعها وجميع المستحقات الحكومية الأخرى يدفع مئات الآلاف من الناس للتعامل من خلال النظام المصرفى. لو أن الحكومة وكل الهيئات الاقتصادية التابعة لها وشركات القطاع العام أخذت بهذا الأسلوب لأسهم ذلك بشكل كبير فى الحد من التعاملات النقدية فى الاقتصاد.
لو صدر تشريع يمنع التعامل النقدى فى المعاملات التى تزيد عن قيمة معينة -عشرة آلاف جنيه مثلاً- لانتهى التعامل النقدى تماماً فى مجالات مثل تجارة السيارات والعقارات والمجوهرات والآلات والمعدات الميكانيكية والساعات والملابس الفاخرة. لو امتنع الشهر العقارى والمرور والأحياء عن تسجيل وترخيص السيارات والعقارات دون مستند يثبت دفع ثمنها عن طريق معاملة مصرفية لتم ضبط النظام بطريقة محكمة.
بعد فترة انتقالية مناسبة يمكن للبنوك الامتناع نهائياً عن قبول إيداعات نقدية تزيد على قيمة معينة. الانضباط والصرامة فى تنفيذ القانون سيجبر المتعاملين بالنقود ومكتنزيها على إيداع أموالهم فى حسابات بنكية وإلا فقدوا القدرة على استخدامها. الدخول الكبيرة صعبة الإثبات التى يتحصل عليها أطباء ومحامون ومقاولون ومدرسون ستعرف طريقها للجهاز المصرفى بشكل دورى منتظم إذا تم تطبيق إجراء كهذا. فى أزمنة سابقة كانت الحكومات تلجأ لإيقاف التعامل بأوراق نقد قديمة لتفرض التعامل بأوراق نقد جديدة كطريقة لمحاربة تهريب العملة والمضاربة عليها، واليوم تحتاج حكومتنا لإجراء شبيه للحد من التعامل بالنقود لضبط الأداء الاقتصادى والمالى.
الحد من التعامل بالنقود يتيح التعرف على الثروات والدخول الحقيقية، ويمكننا من معرفة الأوضاع الحقيقية لاقتصاد مصر والمصريين. «البلد فيها فلوس» تعبير شائع على الألسنة، وتدل عليه المنتجعات السياحية ومشروعات الإسكان الفاخر والسيارات الفارهة التى تجوب شوارع البلد وطرقها. فى مصر ثروات كثيرة لا تعلم الدولة عنها شيئاً، والسبب هو التعامل النقدى خارج النظام المصرفى. التعامل من خلال النظام المصرفى سيتيح للدولة حصراً دقيقاً للثروات، وتقديراً عادلاً للضرائب، والسيطرة على جرائم الأغنياء من التهريب والسوق السوداء إلى تجارة المخدرات وغسيل الأموال.
حجم القطاع غير الرسمى فى الاقتصاد المصرى يصل إلى ثلثى حجم الاقتصاد الوطنى فى بعض التقديرات، وهو المجال الأهم للتعاملات النقدية خارج الجهاز المصرفى. الاقتصاد غير الرسمى مهم ويوفر فرص عمل حقيقية، لكنه يعمل بكفاءة محدودة ولا يقوم بدفع التزاماته الضريبية للدولة والمجتمع. جذب القطاع غير الرسمى إلى المجال الاقتصادى الرسمى يتيح استفادة أكبر من موارد اقتصادية وإمكانيات وعقول استثمارية معطلة فى الوضع غير الشفاف وغير القانونى للقطاع غير الرسمى. مشكلة القطاع غير الرسمى فى الاقتصاد المصرى أعمق بكثير من التعاملات النقدية، فالأهم فيها هو فرار الناس من جحيم التعامل مع البيروقراطية الحكومية بكل ما فيها من فساد وإهدار للوقت وعدم وضوح القوانين والإجراءات، وهذا هو الجانب الأكثر أهمية. لا يجب أن يكون التحاق الناس بالقطاع الرسمى تعذيباً وعقاباً لهم، ولهذا لا مفر من البدء فوراً بإصلاح الجهاز الحكومى، خاصة فى مجالات التعامل مع المستثمرين والمهنيين.
المتضررون من الحد من التعامل بالنقود الكاش ليس لهم عذر، وأغلبهم طفيليون يستفيدون من كل طريق جديد تشقه الدولة، ومن كل تحسن فى الوضع الأمنى، ومن كل تخفيف لمخاطر الفقر الاجتماعية والسياسية، دون أن يساهموا بنصيب فى تحمل تكلفة كل هذا. رفع كفاءة الاقتصاد، وتخفيف مشكلة عجز الموازنة العامة المزمن، وتوسيع المجتمع الضريبى، وتحقيق العدالة الاجتماعية، هى النتائج المترتبة على الحد من التعاملات النقدية، وهى نتائج ستفيد الأغلبية الكبرى من المصريين.
إجراءات الحد من التعاملات النقدية يمكن أن تبدأ على نطاق ضيق، يتم توسيعه تدريجياً، مع المعالجة المستمرة للمشكلات التى يكشف عنها تطبيق النظام، والمهم هو ألا تفتر الهمم والعزائم حتى ينحصر التعامل النقدى فى مجال السلع الاستهلاكية منخفضة الثمن، وهى خطوة ضرورية لتحديث الاقتصاد المصرى وتطوير طريقتنا فى إدارة الثروة الوطنية.
المتضررون من الحد من التعامل بالنقود الكاش ليس لهم عذر، وأغلبهم طفيليون يستفيدون من كل طريق جديد تشقه الدولة، ومن كل تحسن فى الوضع الأمنى، ومن كل تخفيف لمخاطر الفقر الاجتماعية والسياسية، دون أن يساهموا بنصيب فى تحمل تكلفة كل هذا