أتيحت لى الفرصة عدة مرات للحديث لسفراء ودبلوماسيين من دول شرق آسيا. سواء كان اللقاء قبل يناير 2011 أو بعده، فإن الدبلوماسيين الآسيويين ينقلون الحديث سريعاً من أمور السياسة المحلية والإقليمية إلى أمور الاقتصاد والتجارة والاستثمار. لدى الدبلوماسيين الآسيويين معرفة ممتازة بعلم الاقتصاد وباقتصاد بلادهم واقتصاد البلد الذى يخدمون فيه. التوجهات الاقتصادية للحكومة المصرية وسياسات الاستثمار والضرائب وسوق العمل وسعر الصرف هى الموضوعات المفضلة لدى الدبلوماسيين الآسيويين. إنه نموذج مختلف للدبلوماسيين عما نعرفه فى بلادنا وعما عهدناه فى السفراء والدبلوماسيين المقبلين من بلاد الغرب.
الدبلوماسيون الغربيون جاءوا من بلاد الغرب ذات التاريخ الغنى بالصراعات الأيديولوجية والحروب والتوسع الاستعمارى. قضايا السلطة، والتيارات الأيديولوجية والسياسية، وموازين القوى والمنافسات والتحالفات بين القوى الإقليمية هى الموضوع الأثير لدى الدبلوماسيين الغربيين، على عكس نظرائهم الآسيويين.
معرفة المسئولين الآسيويين العميقة بشئون الاقتصاد تشير إلى أن التدريب الذى حصلوا عليه يحتوى على جرعة اقتصادية كبيرة. تركيز المسئولين الآسيويين على الحديث فى شئون الاقتصاد يشير إلى أن المهمة التى تم تكليفهم بها تدور حول رعاية المصالح الاقتصادية لبلادهم فى مجالات التجارة والاستثمار، وأظن أن فى البلاد الآسيوية مدرسة فى اختيار الدبلوماسيين والسفراء وتدريبهم تناسب ظروف بلد يمثل الاقتصاد مشكلته الأكثر إلحاحاً وأولوية.
تأثر الدبلوماسيين المصريين بمدارس الدبلوماسية الغربية أكثر بكثير من تأثرهم بمدارس الدبلوماسية الآسيوية. السنوات الطويلة التى قضتها مصر تفاوض وتناور فى المحافل الدولية من أجل الفوز بالاستقلال الكامل عن دولة الاحتلال البريطانى، وضع السياسة وتقلباتها فى قلب اهتمامات الدبلوماسية المصرية. الدور الإقليمى والدولى والكبير الذى حملته مصر على عاتقها فى زمن القيادة الناصرية، بالإضافة إلى سنوات الصراع العربى - الإسرائيلى الممتدة، عمّق الاهتمام السياسى لدى الدبلوماسية المصرية. الدبلوماسيون المقبلون من خلفيات عسكرية ومخابراتية كان لهم أثرهم فى تعميق هذا الاتجاه.
عصر القيادة الناصرية انتهى منذ زمن طويل، ولم تعد مصر فى حالة نزال متواصل مع قوى دولية وإقليمية. لم يعد الصراع العربى - الإسرائيلى يمثل أولوية لمصر أو غيرها من الدول العربية. تحولت الدبلوماسية المصرية إلى مؤسسة احترافية تختار العاملين فيها وتدربهم وفقاً لمعايير تضعها لنفسها، ولم يعد المقبلون من خارج صفوف السلك الدبلوماسى يعرفون طريقاً إليه إلا نادراً، ومع هذا فإن الدبلوماسية المصرية ما زالت متمسكة بالتقاليد القديمة.
ما نعرفه عن الدول التى حققت نهضة اقتصادية كبرى فى زمن قصير هو أن القيادة السياسية فى هذه البلاد وضعت التقدم الاقتصادى على رأس أولوياتها، وأنها أعادت صياغة أولويات جهاز الدولة بمؤسساته المختلفة فى نفس الاتجاه، بحيث لم يعد مسموحاً لأى مؤسسة من مؤسسات الدولة أن تتبنى من السياسات ما قد يقوض ما تقوم به مؤسسات الدولة الأخرى، كما لم يعد مسموحاً أن تتصرف بعض مؤسسات الدولة وكأن التنمية الاقتصادية أمر لا يعنيها طالما واصلت أداء مهامها فى المجال التقنى الخاص الموكل لها، وفى هذا السياق جرت إعادة صياغة أولويات الجهاز الدبلوماسى.
شىء من هذا لم يحدث مع مؤسسات الدولة المصرية، بما فيها السلك الدبلوماسى، فالنهوض الاقتصادى ما زال مهمة مقصورة على ما يسمى بوزارات المجموعة الاقتصادية، فيما تواصل باقى مؤسسات الدولة العمل بنفس الطريقة القديمة، والتى كثيراً ما تقوض ما تقوم به الوزارات المعنية بالاقتصاد وشئونه، فلا التعليم ساهم فى إنتاج قوة عمل مدربة تناسب احتياجات الاقتصاد، ولا بذل جهد لتنمية مهارات الإدارة والاستثمار وريادة الأعمال لدى الطلاب، ولا حارب لديهم ثقافة التعلق بالوظيفة الحكومية. ولا وزارة الصحة قامت بتطوير برامج للتأمين الصحى منخفض التكلفة للعاملين فى القطاع الخاص، خاصة المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ولا قامت القوى العاملة بتدريب العمال وتطوير آليات فض المنازعات العمالية التى تمثل أحد أسباب انصراف المستثمرين عن مصر، ولا الوزارات الأمنية والسيادية سهلت الحصول على الموافقات الأمنية اللازمة لبعض المشروعات الاقتصادية، وهكذا الحال نفسه فى كل المجالات.
أعود إلى المؤسسة الدبلوماسية لأقول إن مكاتب التمثيل التجارى الملحقة بالبعثات الدبلوماسية المصرية لم تعد تكفى للقيام بمهمة الترويج للصادرات المصرية، والدليل هو البطء الشديد فى نمو الصادرات، ناهيك عن جذب الاستثمارات. فبغض النظر عن كفاءة قيام التمثيل التجارى بمهامه، فإن عدد مكاتب التمثيل التجارى المصرى بالخارج يبلغ ستين مكتباً، فيما يوجد لدينا 129 سفارة منتشرة فى أرجاء العالم بلا دور تجارى أو اقتصادى يذكر. أكثر من نصف مكاتبنا للتمثيل التجارى موجود فى العالم العربى والاتحاد الأوروبى، فيما لا يوجد فى آسيا الناهضة سوى تسعة مكاتب، بينما لا يوجد فى أفريقيا التى نزعم القدرة على «غزو» أسواقها سوى ستة مكاتب فقط، فيما لا يوجد ولا مكتب واحد للتمثيل التجارى فى كل أمريكا اللاتينية والمكسيك، باستثناء مكتب يتيم فى ساوبولو البرازيلية.
المطلوب وبشكل عاجل هو دمج مهام التمثيل التجارى فى جسد الدبلوماسية المصرية، والكف عن التعامل معه كزائدة وعبء، ينظر له الدبلوماسيون المحترفون بتعالٍ. المطلوب هو دبلوماسى من نوع جديد، يفهم جيداً قواعد الاقتصاد والتجارة الدولية، ويحفظ عن ظهر قلب الإحصاءات المتعلقة بالاقتصاد المصرى، كما يعرف جيداً حالة الاقتصاد والأسواق فى البلاد التى هو موفد إليها. المطلوب هو تكليف الدبلوماسيين المصريين بمهام من نوع جديد، والمطلوب إعدادهم للقيام بهذه التكليفات. المطلوب هو طريقة جديدة لتقييم أداء الدبلوماسيين المصريين يحتل فيها حجم الصادرات وعدد الصفقات موقعاً رئيسياً. هذا هو ما تفعله البلاد التى تريد لاقتصادها النهوض السريع.