العلاقات المدنية-العسكرية فى تركيا: «أردوغان» يكسب جولة.. والديمقراطية تخسر
اعتقال الجنود المتورطين فى الانقلاب
اتخذ الرئيس التركى رجب طيب أردوغان منذ الساعات الأولى للانقلاب العسكرى الفاشل، الذى وقع مساء الجمعة 15 يوليو، مجموعة من الإجراءات تجاه المؤسسة العسكرية أو حملة «التطهير» ممن يصفهم بـ«الانقلابيين» أو أتباع حركة «الخدمة» فى الجيش، وفقاً له. وأثارت تلك الحملة كثيراً من التساؤلات حول مستقبل العلاقات «المدنية-العسكرية» فى تركيا، ودور الجيش فى الجمهورية التركية، وما إذا كانت تحركات «أردوغان» لإخضاع الجيش خلف الحكومة المدنية تعنى نجاحاً للديمقراطية وفق الافتراضات النظرية الغربية، أم انتصاراً فقط لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم.
الرئيس وضع خطة تحجيم نفوذ الجيش منذ 2003
مجلة «باسيفيك ستاندارد» الأمريكية نشرت فى 25 يوليو الماضى تقريراً وصف العلاقات المدنية-العسكرية التركية بـ«الفوضوية»، وأضاف التقرير: «الجيش التركى بدأ يفقد قوته بداية من عام 2010، حين نجح عبدالله جول المنحدر من حزب ينتمى إلى تيار الإسلام السياسى فى الفوز بمنصب الرئاسة، رغم اعتراض الجيش التركى وقتها صراحة ببيان إلكترونى، كشكل جديد سنّه الجيش للتدخل». وقال التقرير عن خلفية العلاقات بين الجيش والحكومة التركية: «حاول الجيش أن يملى إرادته على الشعب ويقول لهم لا، لكن العدالة والتنمية كان لديه نحو 47% من نواب البرلمان». ونقل التقرير عن دبلوماسى بـ«الاتحاد الأوروبى» قوله: «منذ ذلك الوقت بدأ الجيش التركى يفقد قوته».
فى السياق ذاته، اعتبر موقع «وورلد بوليتيكس ريفيو» الإخبارى الأمريكى، فى تقرير بتاريخ 19 يوليو الماضى، أن فشل محاولة الانقلاب العسكرى الأخير فى تركيا، انتصار لـ«أردوغان» وليس انتصاراً للديمقراطية، إذ إنه استجاب لمحاولة الانقلاب بمحاصرة كل أعدائه الحقيقيين ومن هم فى خياله». وأضاف الموقع الأمريكى أن «وصول حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى السلطة ليس على هوى المؤسسة العسكرية التى كانت ترى أنها حامى الجمهورية والعلمانية والديمقراطية فى تركيا، لكن أردوغان منذ قدومه إلى السلطة وضع فى اعتباره مسألة إعادة التوازن إلى العلاقات المدنية-العسكرية وعمل بنشاط فى هذا الاتجاه». وتابع التقرير: «حتى باتت المؤسسة العسكرية ليس لديها الثقة أو الرغبة لإعادة تدخلها فى الحياة السياسية بتركيا».
وعن الخطوات التى اتخذها الحزب الحاكم لتقليص نفوذ الجيش، ذكر تقرير لصحيفة «حرييت» التركية، فى 25 يوليو الماضى، عدة إجراءات، أبرزها إلغاء القوانين التى كانت تجيز للجيش الاستيلاء على السلطة فى حال رأى أن أمن البلاد فى خطر، كما تم وضع الصناعات التى تقوم بها القوات المسلحة التركية تحت المساءلة، وكذلك ما يتعلق برواتب موظفيها. أيضاً، وفق الصحيفة، تم تجريد «مجلس الأمن القومى» من صلاحياته التنفيذية، وإدخال عدد كبير من المدنيين وسط أعضائه، كما أن النفقات العسكرية التى لم تكن تخضع لأى رقابة ولا حتى للسلطة التشريعية، خضعت لـ«ديوان المحاسبة» فى عهد حكومة «العدالة والتنمية». وقالت الصحيفة إن عدة إجراءات كانت ترمز إلى نهاية سيطرة الجيش على المدنيين فى تركيا، ففى عام 2004 تم تعيين مدنى على رأس جهاز الأمن القومى الذى كان لا يتولاه إلى عسكريون، والإجراء الثانى كان فى 2011 عندما ترأس «أردوغان»، حين كان رئيساً للوزراء وقتها، رئاسة «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» وجلس وحيداً على طاولة المجلس عكس ما كان متبعاً بجلوس رئيس الأركان وإلى جواره وزراء. وحتى وصل الأمر فى مرحلة سابقة إلى محاكمة قادة سابقين بالجيش بتهم محاولة الانقلاب على الحكومة والتآمر عليها كما فى قضية «خلية أرجينيكون» و«بايلوز» وقضية التجسس على الحكومة.
«إسماعيل»: وقوع انقلاب جديد مستبعد لكن المعارضة داخل الجيش لم تنتهِ.. وقيادى بـ«الشعب الجمهورى»: قمع الأحزاب سيتواصل
كانت مرحلة مهمة للسيطرة على الجيش التركى من قبل «أردوغان» هى بإجراء عدد من التعيينات وسط قادة الجيش، ليأتى الرئيس التركى بأشخاص يثق فيهم على رأس تلك المؤسسة التى عرفت بتدخلاتها الكبيرة فى الحياة السياسية التركية، فكان تعيين قائد القوات البرية السابق الجنرال خلوصى أكار رئيساً لهيئة أركان الجيش التركى فى 2015، وهو الجنرال الذى احتجز لدى الانقلابيين بداية محاولتهم مساء 15 يوليو، لكنه كما قالت وسائل إعلام تركية رفض تلاوة بيان الانقلاب، كما أنه معروف بين الأوساط الغربية بأنه رجل ثقة لدى الرئيس التركى، وكان يحضر معه الاجتماعات الحساسة، وفق قناة «روسيا اليوم» فى تقرير نشرته فى 17 يوليو الماضى.
إلا أن التطور الأكبر فى محاولات الرئيس التركى لتقليص نفوذ الجيش التركى والسيطرة عليه وإخضاعه له، كانت بعد الانقلاب العسكرى الفاشل، فإلى جانب الاعتقالات والإقالات التى بلغت الآلاف بين أفراد المؤسسة العسكرية وإقالة نحو ثلث جنرالات الجيش التركى، دعا الرئيس التركى إلى إجراء تعديل دستورى يتيح إخضاع هيئة أركان الجيش ووكالة الاستخبارات الوطنية تحت سلطة الرئاسة.
دبلوماسى بـ«الاتحاد الأوروبى»: المؤسسة العسكرية تراجعت قوتها فى الشارع بوصول «جول» للرئاسة فى 2010
كما أعلنت الحكومة التركية، إلحاق قيادات القوات البرية والبحرية والجوية بوزارة الدفاع، بعد أن كانت تتبع رئاسة هيئة الأركان، وفق قرار نشر فى الجريدة الرسمية. ووفق القرار، فإن «القوانين واللوائح ذات الصلة التى لا تتعارض مع القانون، والمتعلقة بواجبات وصلاحيات هيئة الأركان العامة ستبقى سارية المفعول». كما تضمن القرار «تخويل رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، إذا لزم الأمر، الحصول على معلومات تتعلق مباشرة بقيادة القوات المسلحة، ومدى ولائهم، والتأكيد على صلاحية الرئيس ورئيس الوزراء فى توجيه أوامر مباشرة لقادة القوات، وضرورة تنفيذ القادة الأوامر مباشرة دون الحصول على موافقة من أى سلطة أخرى».
وفى خطوة أخرى هى الأولى من نوعها، أعلنت الحكومة التركية ضم مزيد من الوزراء إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وفق الجريدة الرسمية، التى نشرت قرار الحكومة الذى قال إن وزراء العدل والداخلية والشئون الخارجية ونواب رئيس الوزراء باتوا أعضاء فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وعلقت وكالة أنباء «فرانس برس» وقتها على تلك الأنباء وقالت فى تقرير: «يبدو أن التعديلات المعلنة بعد أسبوعين على محاولة الانقلاب، تهدف إلى منح أردوغان سلطات أعظم على القوات المسلحة والاستخبارات». كان للرئيس التركى والحزب الحاكم خططه فى إطار محاولات السيطرة على المؤسسات التى تملك أدوات القوة الأخرى، فكان تعيين حقان فيدان عضو الحزب الحاكم رئيساً لمنظمة الاستخبارات الوطنية وهو الرجل الذى يوصف بأنه «كاتم أسرار أردوغان»، أو اليد اليمنى للرئيس، وفق تصريحات للرئيس نفسه. كان لهذا الرجل دور كبير فى تنفيذ أجندة «أردوغان» السياسية الداخلية والخارجية، سواء فى محاصرة حركة «الخدمة» التى يتزعمها فتح الله جولن، المقيم فى الولايات المتحدة والمتهم فى تدبير محاولة الانقلاب، من خلال إعداد قوائم بالمنتمين إلى تلك الحركة، وفق وسائل إعلام تركية معارضة وغربية. كما أن «فيدان» كان له دور كبير فى التوصل إلى اتفاق سابق مع المتمردين الأكراد للبدء فى عملية سلام، وهو الاتفاق الذى انهار فيما بعد. ورغم انتقادات وجهت إلى «فيدان» عقب محاولة الانقلاب، لعدم التنبه له فى السابق واتخاذ الاحتياطات اللازمة، فإن الرجل بقى فى منصبه، إلا أن وسائل الإعلام التركية قالت إن «فيدان» أنقذ الرئيس من محاولة الانقلاب عندما علم بتحرك الانقلابيين قبلها بخمس ساعات، وهو من اتصل بالرئيس وأبلغه ونصحه بالخروج عبر أى وسيلة للإعلام لدعوة المواطنين للخروج إلى الميادين والتعبير عن رفضهم محاولة الانقلاب، ونجحت خطة «فيدان»، وأفشل الانقلاب.
تقارير أمريكية: الجيش ليس لديه الثقة أو الرغبة للتدخل فى الحياة السياسية.. و«أردوغان» استغل الانقلاب الفاشل لمحاصرة كل أعدائه المتخيلين
وإذا كان الرئيس التركى رجب طيب أردوغان يعمل جاهداً لبسط سلطانه على المؤسسة العسكرية، وإلى جانب خضوع منظمة الاستخبارات له، فإن جهاز الشرطة كان يمثل النموذج الأول لدى الرئيس التركى لإخضاع مؤسسة تملك أدوات القوة والقهر فى الدولة، ونجح فى ذلك بعدة خطوات متتالية اعتمدت على القيام بحملات تطهير واسعة بين صفوف عناصر الشرطة، وهى الحملة التى بدأت بعد تحرك للشرطة فى سبتمبر 2013 بالقبض على عدد من أبناء الوزراء والمسئولين فيما سمى «فضيحة الفساد الكبرى»، التى قالت وسائل إعلام معارضة إنها تطال أسرة «أردوغان». وإلى جانب حملة التطهير فى الشرطة فإن الرئيس التركى أعد قوات خاصة تلقت تدريبات على كيفية التصدى للانقلابات العسكرية، وهى التدريبات التى ترجمتها صور اقتياد الشرطة الجنود المتورطين فى محاولة الانقلاب الأخيرة والقبض عليهم. وهدفت خطة «أردوغان» من تطهير الشرطة وإخضاعها له إلى تحقيق هدفين: الأول مواجهة الانقلابات العسكرية ونجحت فى هذا الهدف، والثانى قمع المعارضة فى البلاد من خلال مجموعة من المواد القانونية التى أقرت العام الماضى، التى وصفتها منظمات دولية بأنها تمثل انتهاكات خطيرة للحقوق والحريات ولقمع المعارضة، وفق «منظمة العفو الدولية».
وتعليقاً على الخطوات السابقة، قال نائب رئيس حزب «الشعب الجمهورى» أوزتورك يلماز، فى تصريح لـ«الوطن»، إن الإجراءات التى اتخذها «أردوغان» منذ محاولة الانقلاب الفاشلة هى الانقلاب الفعلى، نحن كما قلنا فى حزب الشعب الجمهورى أمام انقلاب مدنى. وأضاف القيادى بحزب المعارضة الرئيسى فى البلاد: «نحن ضد محاولة الانقلاب العسكرى ونرفض تدخل الجيش فى الحياة السياسية، ولكن فى الوقت نفسه نحن ضد أردوغان فى مسألة إعادة هيكلة الجيش، كما أننا نرفض الإجراءات التى تستهدف المعارضة فى تركيا». وتابع «يلماز»: «قمع المعارضة والأحزاب من قبل السلطات يتواصل وسيتواصل».
من جهته، قال الخبير فى شئون الشرق الأوسط الدكتور محمد صادق إسماعيل، فى اتصال لـ«الوطن»، إن «الخطوات التى اتخذها أردوغان بعد محاولة الانقلاب تؤجج من جديد الصراع بين السياسيين والعسكريين، وبات واضحاً أن هناك معارضة داخل الجيش التركى وهذه المعارضة لن تنتهى». وأضاف «إسماعيل»: «الرئيس التركى بات نهجه واضحاً الآن بأنه يريد القضاء على كل أوجه المعارضة سواء تلك التى داخل المؤسسة العسكرية أو حتى المعارضة المدنية، وهو يتجه لأن يكون الرجل الوحيد المتحكم فى كل شىء فى الدولة التركية». وتابع الخبير السياسى عن مستقبل المعارضة التركية: «المعارضة بالتأكيد تزداد قوة، فهى تعمل على تصدير الصورة إلى الخارج بمحاولات أردوغان القضاء على المعارضة، ولهذا وجدنا الاتحاد الأوروبى مثلاً يستجيب لها وينتقد تركيا بكل قوة، ويعتبر أن مباحثات انضمامها إلى الاتحاد مهددة إذا لم تتوقف الحكومة عن ممارساتها». وقال «إسماعيل»: «الحديث عن محاولة انقلاب عسكرى جديدة فى الوقت الحالى مستبعد للغاية، لكن الأمور لم تنتهِ، والمعارضة داخل الجيش لم تنتهِ، وبالنسبة لأحزاب المعارضة، فإنها تحاول تقوية صورتها فى الخارج إلى جانب الداخل».