ما رأيكم لو ننحت تمثالين قديرين بقداسة أصحابهما. أحدهما لمؤسس «فيس بوك» والآخر لصاحب فكرة «تويتر». ما رأيكم لو نعرض التمثالين بكل قرية ومدينة بدل تماثيل أسقطها الثوار للزعماء السابقين؟
فهذان الشخصان، حسب رواية المحللين العرب، كان لهما الشأن الأكبر فى الثورات وشيوع الحريات وإماطة اللثام عن الرأى العام العربى، وإحكام القبض على الرقابة بعدما كانت تحكم القبض على الأدمغة.
مقابل هذا الدور النضالى الشعبى، الذى مللت من سماع المتحدثين يمجدونه ويشيدون بعصر الصفحات الاجتماعية متباهين بعجز المسئولين عن التحكم بما يقرأه ويكتبه المواطن المحلى.. مقابله، يبرز دور آخر لفيس بوك وتويتر أكثر حقيقة وواقعية من مسألة تحرير الشعوب.
فلا شىء مخفى بحياة المواطن بعد الآن، وصفحات أيامه مكشوفة.
أولاً: من هو؟ كله مذكور بصفحة التعريف. اسمه وتاريخ وموقع ميلاده وفلسفته فى الحياة وعمله وحالته الاجتماعية. وفى الداخل بقية المعلومات وإجابات لأخطر الأسئلة: ما رأيه بكل شاردة وواردة فى البلد؟ وما دوره بالتفصيل بكل حدث أو احتشاد؟ كله مدون وبيده.
أبعد من ذلك، بصفحته مجموعة لا تصدق من الصور. تشرح بالألوان وبالتفصيل كل ما تريد أى جهة كانت أن تعرفه عن صاحب الصفحة. عن علاقاته وعائلته وعمله. عن الأماكن التى يرتادها، وحتى عن النساء بحياته. تعلم أنه بات من العصرى جداً لتكون مواكباً لنهضة المعلومات ولتوصف بـ«المواطن المودرن» أن تنشر صورك وأخبارك اليومية. أين كنت الساعة كذا؟ ومع من وأين؟ وما الحوار الذى دار؟ هذا السطر نموذج تقرأه لـ«المواطن المودرن» بصفحته الاجتماعية:
نلتف حول الطاولة بالمطعم كذا بالبلد كذا مع فلان وفلان وفلانة ونناقش المسألة السياسية الخاصة بـ..
هل أسميه مواطناً يتحدى المخابرات؟ ويعلن انتهاء عهد الاختباء؟
الجميع صار منظراً وفيلسوفاً. ترهات وترهات تنهال على «تويتر» يومياً وتسابق حامى الوطيس، للتباهى بأكبر عدد ممكن من المتابعين (برأيى أكثرهم مخبرون) وناس عارفة تكتب والأغلبية لا تعى ما يحدث، وليس لها علاقة بتكوين العبارات لكنها تكتب. المهم أن تثبت وتسجل نظريتها الفكرية السياسية الخارقة لهذا اليوم.
يكمل المواطن المودرن الإجابة عن بقية الأسئلة..
بم تفكر هذه اللحظة بالتحديد؟ وما كانت نشاطاتك وانتماءاتك فى المراهقة والمرحلة الجامعية؟ ما المجموعات التى تلتقيها؟ وما رأيك بالنظام؟ ما رأيك فى الدين؟ هل أنت ملحد؟ هل أنت مع أم ضد الثورة؟ هل تؤيد التجمعات والاحتجاجات؟ ما رأيك بالقاعدة؟
أتوقع أن تكون هذه الأسئلة جزءاً من قائمة تحلم المخابرات العالمية بإيجاد حلولها عن كل مواطنى العالم لا الملاحقين فقط. لم يعد حلمها خيالاً، فالنظام العالمى الجديد يزيح عن كاهلها وبالتدريج عمليات البحث والتحقيق المجهدة القديمة.
المواطن المودرن يدون المعلومات وهو مبتسم لا تحت ضغط التهديد، ودون أن يتلقى اللكمات، ودون أى تعذيب، يكتب بملء إرادته، ويمارس بوحه اليومى بأسراره وأسرار فكره.. كله مجاراة للموضة وللتكنولوجيا وللثورة.
أشاعوا أن مراهقين ابتكرا الصفحتين، خدعة.. المؤكد أن الأمر تطلب مليارات ليتمكنوا أخيراً من إدخال شريحة غير مرئية بكل خلية دماغية، لتتحكم بالفرد وتسيطر على قناعاته ومعتقداته القديمة. أولى القناعات الجديدة أن من لا يزيل الغموض عن حياته ولا يشرك الآخرين يومياته، شخص غير متحضر.
فى سهرة نتبادل الصور، تبتسم إحدى الحاضرات وتقول: سأضعها على فيس بوك. تنظر لزوجها الذى يبتسم مؤيداً: لماذا؟ هذه صور خاصة، ترد ويرد: لكن كل الناس تحط صورها، وبعدين أنت شخصية عامة والناس شايفة صورك، خايفة من إيه..
- الناس شايفة الصور العامة، لكن مع عائلتى وحياتى لمَ؟.
- بلاش تعقيدات وخليك مودرن، وإحنا ما نشوفك على تويتر ليه، كل الناس هناك.
حتى صور النساء المحرمة لم تعد كذلك بعد اليوم.
لعبة استخباراتية خبيثة فى غاية الخباثة، كل الناس هناك، بفعل شريحة التنويم، كل الناس هناك، سنوات وهم يعدون لها ليسيطروا على مواطنى العالم.
من لحظة الاستيقاظ ينقاد المواطن بلا وعى للكمبيوتر ليسجل مجريات صباحه. ولم الكمبيوتر؟ فعبر الآى فون والبلاك بيرى يكون التدوين أسرع، لا وقت تنتظره المباحث والمخابرات لتفتح جهازك.. فالهواتف تسهم بتسريع الملاحقة والتحقيق.. فى سريرك، فى سيارتك، تصف كل ما تراه بالشارع والعمل.. وتكمل بقية النهار بإرسال أجوبة التحقيق. وعند المساء تكتب المعلومة الأخيرة ليسجل الجهاز المركزى الضخم بأن المواطن قد خلد للنوم.
ومن يدرى، فربما يعملون على تطوير شريحة جديدة تسجل أحلامنا أثناء النوم ولاوعينا، فعقولنا قد تحمل أسراراً وأفكاراً لا نعرفها عن أنفسنا، لكنها قد تفيد الجهات المختصة.
تفيد مباحث ومخابرات العولمة.
المسئول لم يعد عاجزاً عن إحكام الرقابة، المسئول يمارس دوراً مخابراتياً متطوراً وسابقاً (كعادته) لعصر مجتمعه.
nadinealbdear@gmail.com