في كتاب كارل ساجان «رومانسية العلم» (وهو أحد كتب «مكتبة الأسرة» التي أؤكد على النصح بقراءتها) يحكي المؤلف عن حلم زاره في أحد أيام الصيف اللاهب، رأى فيه موكبًا جنائزيًّا لأحد أقاربه، واستيقظ مع دقات قلب متسارعة وعَرَق يغطي نصف وجهه، وكله قناعة بأن قريبه هذا مات.. ومع أن قريبه لم يَمُتْ حتى بعد عشرين عامًا من ذلك التاريخ، فإنه لم يرِدْ الاتصال للتأكد.. خشية أن يكون اتصاله «نبوءة تحقق ذاتها» أو ما يسميه العلم «self-fulfilling prophecy».
النبوءة المحققة لذاتها
هي عبارة عن «توقُّعٍ ما، يُسهِم نشرُه في تحقُّقِه بالواقع»..تصوَّرْ أنك لاعب كرة قدم محترف، وقبل المباراة بدقائق صارَحْتَ زُمَلاءَكَ في الملعب بأنك تظنُّ أنهم سيخسرون المباراة، وأن هذه «النبوءة» عملت على تثبيط همّتهم أثناء اللعب بأنها سيطرت على عقولهم وأدَّت إلى أن يلعبوا بعدم اكتراث، وانهزموا بالفعل.. ستكون هذه «نبوءة حققت ذاتها».وفي مثال كارل ساجان، فقد خشي أن يتصل بقريبه هذا لكي لا يُسْهِم اتصاله في تحقق النبوءة، مثلًا قد يستيقظ قريبه هذا على رنّة هاتف ساجان مفزوعًا فيتوقف قلبُه، أو ربما يشتبك مع سلك الهاتف فيسقط ويتسبب في موته، فهذا هو ما قصده بأن تكون نبوءته قد حققت ذاتها.
تأثير غولوم
في التقاليد اليهودية ينشأ «الغولوم» أو «الغوليم» من وضع سحر أسود على مادّة غير حية فتدب فيها الحياة (كُلُّنا يعرف «غولوم» من سلسلة «مملكة الخواتم»)، تحكي القصة اليهودية أن غولوم جرى خلقه ليحمي اليهود في براغ، ولكن نظرًا لتخوف الناس من مظهره وتجنُّبهم إياه، فقد أثَّر ذلك عليه، وتحول إلى الشر والفساد بالفعل، مما سُمي بـ«تأثير غولوم»، وهو ما يحدث يوميًّا في قاعات الدراسة، حِينَ ينتخبُ المدرِّس مجموعة من الطلاب ويضفي عليهم كلمات المديح والإشادة، ويهمل آخرين ظنًّا منه بأنه لا أمل لهم في التفوُّق، فيتحولون إلى نبوءة تُحقِّق ذاتها.. وفي النهاية يفشلون!
تأثير بجماليون
حكى الشاعر أوفيد عن أسطورة لرجل كان يُسمى بجماليون (طبعًا ليس بجماليون ملك صور في القرن الثامن قبل الميلاد)، كان نحّاتًا عظيمًا لكنه كان يكره النساء، وحدث أن نَحَتَ تمثالًا لامرأة جميلة، ووقع في حُبِّها (أي في حب المرأة التمثال)، وطلب من الآلهة أن تمدها بالروح فأمدَّتْها، وأنجب منها طفلة حَكَمَت المدينة..! صارت هذه الأسطورة مثلًا للتأثير الإيجابي، فعندما أبدع بجماليون في تمثال المرأة حفّز نفسه على أن يفتح قلبه ويُحِبّ وأن يغير الحقيقة الماثلة في ذهنه.. من هنا جاء مصطلح «تأثير بجماليون» وهو أنه كلما زادت النتائج المتوقعة من الأشخاص (غالبًا الطلاب، والتلاميذ أو الموظفين) زادت النتائج الإيجابية لأدائهم، وهي شكل من أشكال «النبوءة ذاتية التحقق».
نبوءة أوديب وأحمد شوقي
أوديب مسرحية كتبها سوفوكليس، تبدأ بأن كاهنًا لأحد الملوك تنبأ له بأنه إذا أنجبَتْ زوجة الملك ولدًا فسيقتل عندما يكبر أباه، ولأن زوجة الملك أنجبت ابنًا سمته «أوديب»، والملك كان يُصدِّق كلام العرَّافِين المخابيل، فقد كبَّل قدمَيْ ابنه الرضيع، وقدَّمه لراعٍ ليلقيه في أحد الجبال. الراعي كان عطوفًا، أعطاه هدية إلى ملك وملكة مدينة كورينث، وبعد أن شبَّ الطفل، عرف حقيقة أبويه، وعرف مضمون النبوءة.. وحين حاول الهرب قُدِّر له أن يلقى أباه في طيبة، وتشاجرا، مما دفع أوديب إلى أن يقتل أباه، وبالتالي فقد حقق أوديب النبوءة دون قصد منه.من القصص المشتهرة (تقرؤها في رواية «مثل إيكاروس» لأحمد خالد توفيق) أن عرافًا قال لأمير الشعراء أحمد شوقي إنه يتنبأ له بكتابة قصيدة يكون مطلعها «رمضان ولَّى هاتها يا ساقي»، وينتهي الأمر بأحمد شوقي بأن يكتبها بالفعل، ويتساءل الراوي الذي نقل الحكاية: هل السبب في كتابتها النبوءة، أم أن النبوءة حققت ذاتها عندما ألقى العراف في ذهن شوقي هذه الفكرة، بمعنى آخر هل كانت النبوءة ستحدث لو لم يعرفها شوقي؟!
بنك أوف أميركا.. يا للمصيبة!
في عام 1928، وقف شخص على باب أحد فروع بنك أوف أميركا (بنك الولايات المتحدة) وهو بنك خاص، وكان البنك في الصدارة الاقتصادية بذلك الوقت، ونشر الرجل الواقف على باب البنك شائعة مفادها أن البنك سيُفلس. ومع أن هذا البنك لم يكن يمر بأي ضائقة من أي نوع، فإن الشائعة انتشرت انتشار النار في الهشيم، وذهب أصحاب الودائع جميعًا لطلب أموالهم كاملة، ولأن البنك (أي بنك) لا يحتفظ بجميع أموال المودعين في حالة سيولة، فإن البنك بالفعل تعرَّض لضائقة مالية، أودت به إلى الإفلاس والانهيار.
ذوو البشرة السوداء والثورة
كان انضمام الأفرو أميركيين (الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية سود البشرة) في بداية القرن العشرين لأي منظمة أو نقابة ضربًا من المستحيل، نظرًا للتفرقة العنصرية بينهم وبين الأميركيين من أصل أوروبي.. وكانت النقابات تدعي أنهم يثيرون الشغب والاضطراب في أي مكان يحلّون به.. ونتيجة لذلك أصبح الأميركيون من أصل أفريقي بالفعل يُكثِرون من حركات التمرد في أي منظمة ينضمون بها، ويُحْدِثون كثيرًا من الشغب والعنف، والثورة.فالنبوءة على ذلك حققت ذاتها!!
علماء نفس الطفل لديهم ملايين الدراسات الموثَّقة التي أثبتَتْ دورَ التشجيع والدافعية والتحميس في تغيير الحالة الدراسية للطفل إلى الأفضل، وكيفية عمل التثبيط والإحباط عمل المعوِّق المدمر لتقدم الطفل.إذا كنتَ أبًا أو معلمًا، مديرًا أو مسؤولًا، فإن إعداد صورة ذهنية مسبقة من هيئة الشخص أو من مظهره، يعني أنك «قَوْلَبْتَه» وأعدك أنه لن يثور على هذا القالب، بل ربما أثمر فعلك تجاهه أن يصبح بالصورة التي تكرهها. وهذا نوع من النبوءة التي تحقق ذاتها.تقبَّلُوا غَيْرَكُم، وظُنُّوا بالناس خيرًا، كذلك دعت الشرائع والأديان، وكذلك حثت الأخلاق والمواثيق.. توقعوا منهم أن يكونوا على قدر الثقة.. انشروا الطاقة الإيجابية فترتد عليكم أشعة حب وسلام داخلي.. ولا تسمحوا بأن يسمكم أحد دون معرفتكم، ولا تشوهوا فطرة الصغار بالكراهية والحقد.. باختصار: كن جميلًا ترَ الوجود جميلا!(ماشي؟)