«موجة ما بعد، ماذا بعدها؟».. سؤال طرحته منذ سنوات طويلة، دون أن أتوصل إلى أى إجابة واضحة، أو حتى تفسير مقنع للجوء إلى «حيلة المابعدية» المتكرر. هل كانت «ملامح الحالات» التى تم التعبير عما حدث من تغير لها بما بعدها، واضحة بصورة أكبر تسمح بتوصيفها؟ وهل ساعد امتدادها الزمنى ووضوح آثارها على «التفلسف» فى تنظيرها؟ وهل ساهمت كثرة المتغيرات وتنوعها فى تبرير صعوبة إعطاء توصيفات متماسكة لكل منها، والاقتناع بكونها «ما بعدية»، مما دفعنى إلى اعتبارها ظاهرة، تستحق إضافة لاحقة «ism» الشهيرة، بحيث تسمى Postism؟ وهل نستبعد التراجع النسبى للفلسفة والفلاسفة، أمام طغيان الثورة العلمية والتكنولوجية؟ هذه المسألة الأخيرة ليست رأياً، بل مجرد تساؤل مطروح للنقاش.
نعود إلى «المابعدية»، لنرصد ترسانتها الكبيرة، التى عمت الكثير من المجالات الفكرية والسياسية والاقتصادية والفنية وغيرها. تطالعنا مصطلحات «ما بعد» الاستعمارية والإمبريالية والمجتمع الصناعى والرأسمالية والحداثة وصولاً إلى التعبيرية والبنيوية... إلخ. ولعل من أحدثها مصطلح «ما بعد العلمانية»، الذى كان «هابرماس» من أول من أشاروا إليه بقوله «نحن نعيش فى مجتمع ما بعد علمانى»، فى إشارة إلى عودة الدين إلى المشهد، بعد تحييده أو تهميشه طويلاً، فى ظل المفهوم المتعارف عليه للعلمانية، التى سادت فى المجتمعات الغربية.
رغم كون «فهم الآخر» هو هدف المشتغلين بالاستشراق والاستغراب، هذا الهدف الموضوعى، المطلوب بين أطياف المجتمع الواحد قبل أن يمارس بين مختلف المجتمعات والثقافات، فإننا نلحظ فى هذه الحالة «ظل كبلنج» ومقولته الفجة «إن الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا أبداً». لم تكن المشكلة فى أى وقت من الأوقات تتصل باللقاء الحتمى مع الحراك البشرى وتوافق وتعارض المصالح، لكنها كانت فى شكل اللقاءات، وما يثار فى تحليلاتها من اتهامات متبادلة. صحيح أن العديد من دراسات الجانبين قد صارت أكثر عمقاً ونضجاً، وإن كان من الصعب علينا مثلاً نسيان المرحلة الاستعمارية واستعلاء «الرجل الأبيض»، والعدوان على موارد ومقدرات الجنوب، إلى آخر هذه الأمور المحفوظة. والدعوة إلى التجاوز الذى نرجوه، ستلغى الحاجة إلى أن نسم تطور الاستشراق والاستغراب بأنه «ما بعدهما». لعل البديل الجاهز، الذى يجمعهما فى نوعية شاملة من الدراسات للتاريخ البشرى وتفاعلات شعوبه وحضاراته وثقافاته، هو «الإنسانية الكوكبية» «global humanism»، وإن كان هنالك من يلصق «المابعدية» بالمصطلحين، بصورة تؤكد «تهافت المابعدية»، الذى يمكن أن نوضحه فى مقال مقبل.
أخيراً، نعود إلى ترسانة المابعديات السابق ذكرها لنوضح ما يمكن أن يمثل حدود استعمالها. لعل اكتمال ونهاية مرحلة أو التجاوز وتغير النموذج الإرشادى لمفهوم قد يبرران أن نعد ذلك بداية لما بعدهما، حتى يكتمل «المابعد» الجديد، ويمكن وصفه، أو نبقى عليه. قد يصدق ذلك مثلاً على ما بعد الاستعمار والإمبريالية، لكنه لا يصدق على الرأسمالية والعلمانية والعولمة. والخلاصة، أن التوسع فى «المابعدية» يجب مراجعته، لأنه قد يؤدى إلى التضليل وسوء الفهم، فما بعد المجتمع الصناعى له مسماه الموضوعى «مجتمع العلم التقنى»، وما بعد العولمة التى جاءت لتبقى هو «العولمة البديلة»، وما بعد الرأسمالية قد يكون «الرأسمالية المجتمعية»، وما بعد العلمانية هو «العلمانية المتسامحة»، وهكذا. ولعل مرجعية «وحدة المعرفة»، الآخذة فى التشكل والنضج، ستغير الكثير من الأمور. وسيساندها فى ذلك الاقتناع الصادق «بالمستقبل المشترك» للبشرية بكل طموحاتها وتحديات تحقيقها، الذى سيمثل صفحة جديدة ناصعة فى مسيرتها، أكبر من أن توصف بمجرد كونها «ما بعدية»!!