فى كثير من التحليلات والمقالات بشأن الانتخابات الأمريكية، والتى نُشرت فى الولايات المتحدة أو خارجها بما فيها تحليلات عربية ومصرية، انتهت بترجيح أو بالأحرى تمنى فوز هيلارى كلينتون لأنه سوف يحافظ على التيار العام فى السياسة الدولية، وذلك على عكس ما قد يحصل من انقلابات أو خطوات غير محسوبة إذا ما فاز منافسها دونالد ترامب. وبغضّ النظر عن حاجة العالم للتعامل مع أسلوب واضح وسياسة يمكن فهم دوافعها واستيعاب أبعادها المختلفة بما فى ذلك ما يمكن معارضته صراحة أو التحفظ عليه أو استيعابه بشكل أو بآخر، فإن انتظار المفاجآت والتحسب لها يمثل أيضاً عنصر أمان ولو نسبياً، لأن الحاجة إلى تغيير الأشخاص والسياسات ومغامرة الدخول فى مساحة جديدة تُعد أيضاً تياراً طبيعياً فى الحياة، سواء فى أمريكا أو فى غيرها. ولذا فإن ثقة هيلارى كلينتون فى الفوز لا تزيد كثيراً على احتمال الهزيمة وفوز المنافس العنيد ترامب.
الذين يرجحون فوز هيلارى كلينتون أو يتمنون فوزها يقدمون أسانيد عقلانية وموضوعية إلى حد كبير، منها تعدد استطلاعات الرأى التى منحت التأييد الأكبر لها، ولأن حملتها الانتخابية هى الأكثر تنظيماً وكفاءة وقدرة على جمع التبرعات، وبها من الأسماء الكبيرة فى مجالات مختلفة ما يجعلها مؤهلة لتشكيل الإدارة الجديدة بسرعة وكفاءة وفى الزمن المحدد. وبالقطع فإن خبرة كلينتون فى مجال السياسة الخارجية وكذلك القضايا الداخلية المعقدة والتى اكتسبتها من خلال مسيرتها السياسية كعضو فى مجلس الشيوخ ووزيرة خارجية لمدة أربع سنوات وكسيدة أولى لمدة ثمانى سنوات إبان رئاسة زوجها بيل كلينتون، تعطيها مزايا كبيرة مقارنة بمنافسها ترامب الذى يفتقر إلى مثل هذه الخبرات المهمة. ولا ننسى هنا أن مؤسسات إعلامية نافذة انحازت صراحة للمرشحة هيلارى باعتبار أنها ابنة رؤوم للمؤسسة الحاكمة والأكثر استيعاباً لعمل الدولة الأمريكية ومؤسساتها. ويمكن أن نضيف سبباً آخر يتعلق بكونها السيدة الأولى فى تاريخ الولايات المتحدة التى تُنافس بضراوة على أعلى منصب فى البلاد، مما يعطى وهجاً للمجتمع الأمريكى ونضجه بشأن معايير المواطنة والمساواة المطلقة التى بدأ التعبير عنها فى انتخاب أوباما بأصوله الأفريقية لدورتين متتاليتين، فيأتى انتخاب هيلارى ليدعم مثل هذا الوهج ويؤكده سياسياً ومعنوياً.
ومن العناصر التى تصب أيضاً لصالح كلينتون ما يتعلق بالتركيبة العامة للمجتمع الأمريكى ككل، حيث ارتفاع نسبة المهاجرين بما يفوق 15% فى التركيبة الكلية، وزيادة عدد من يستحق التصويت منهم وتشكل الأقليات وقوى الضغط ذات الطابع العرقى التى تسعى إلى الحصول على مزايا وفرص المواطنة الأمريكية، وهو ما تدعمه فلسفة الحزب الديمقراطى بشكل عام والتى تتبنى استراتيجيات دمج الأقليات فى المجتمع الأمريكى دون تمييز النوع أو تفرقة بسبب الدين أو العرق أو الأصل.
العناصر السابقة صحيحة ولا خلاف عليها، وهى التى تمثل مبعث الاطمئنان والثقة لهيلارى شخصياً ولحملتها الانتخابية فى الفوز المريح، وبالتالى يصبح التفكير الغالب محصوراً فى متابعة كيف ستتعامل الرئيسة هيلارى مع القضايا الدولية الشائكة التى تمس مصالح دول العالم بأسرها، بما فى ذلك مصالحنا نحن المصريين ومعنا العالم العربى وأزماته المعقدة والمتفجرة.
ولما كانت الحياة بشكل عام، والسياسة وصراعاتها بشكل خاص، لا تخلو من المفاجآت الكبرى، فمن المنطقى القول إن ثقة هيلارى كلينتون فى الفوز ليست مضمونة تماماً، وبالمقابل فإن فرص ترامب ليست معدومة تماماً، فحملته الانتخابية التى بدأت متواضعة ولغته الخشنة والانتقادات الكثيرة التى وُجهت لأفكاره وغموضها أحياناً وعشوائيتها أحياناً أخرى، إضافة إلى مواقفه الهزيلة والمتعصبة تجاه الأقليات والمهاجرين والعالم الإسلامى والمرأة، وصراحته الفظة، وملابسات كونه من خارج المنظومة السياسية التقليدية، فقد أخذت -أى حملة ترامب- فى التطور والتحسن واستيعاب الانتقادات، ومن ثم تغيير اللغة وإعادة شرح العبارات التى يتفوه بها وتثير غباراً كثيفاً بحيث تصبح إيجابية فى مضمونها، مع التمسك بأمرين جوهريين، أولهما أنه مرشح التغيير الجذرى المقبل من خارج المؤسسة السياسية البالية والفاسدة والتى يحمل ترامب أفكاراً كبرى لإصلاحها والسيطرة على فسادها، الأمر الذى يلامس تطلعات وأحلام فئة اجتماعية عريضة داخل الولايات المتحدة من الجمهوريين والديمقراطيين معاً. والثانى أنه الأقدر على استعادة عظمة أمريكا التى فُقدت نتيجة تراخى الديمقراطيين وسياساتهم الضعيفة طوال دورتَى الرئيس أوباما، وذلك من خلال الوعد بتطبيق أو تجريب سياسات جديدة بمعايير مختلفة عما هو تقليدى تجاه الحلفاء والأصدقاء وكذلك من يُعدون أعداء صريحين. وكلا الأمرين حققا نتائج طيبة.
وعلى صعيد تنظيم الحملة الانتخابية، فقد عالج ترامب الكثير من أوجه القصور فيها من خلال ضم العديد من كبار القادة العسكريين المتقاعدين ودبلوماسيين سابقين، فضلاً عن اتباع ما وُصف باستراتيجية الحشد الشعبى المتواتر من خلال ضم عدد كبير من المتطوعين الذين نظموا كثيراً من الفعاليات حضر بعضها ترامب شخصياً فى مواقع نائية وأماكن ريفية وبعيدة عن مراكز المدن، وبما أضفى عليه سمة مرشح الشعب البسيط الراغب فى تغيير أسلوب حياته، وليس مرشح النخبة ذات الياقات البيضاء وربطات العنق الفاخرة التى تتميز بالجمود ورفض التغيير. وكان من نتيجة هذه التحولات فى الأداء أن تحسن موقع ترامب فى استطلاعات الرأى العام، وبعد أن كان الفارق بينه وبين هيلارى كلينتون فى بداية الحملة الانتخابية يصل إلى 12 نقطة وأحياناً 16 نقطة، انخفض الفارق مع الاقتراب من اليوم الموعود إلى نقطة أو ثلاث نقاط على الأكثر. وهو ما يمثل تطوراً ونجاحاً ملحوظاً لا يمكن إنكاره، حتى إن نتيجة أحد استطلاعات الرأى قبل يومين من التصويت منحت ترامب التفوق بفارق نقطة على منافسته كلينتون.
والنتيجة المنطقية هنا هى أن تحسن أداء حملة ترامب وانخفاض الفارق فى استطلاعات الرأى تدريجياً يعنى فشل حملة هيلارى فى الحفاظ على الفارق الكبير الذى حققته مبكراً، ويعنى انقلاباً نسبياً فى مزاج المواطنين الأمريكيين، وهو ما يؤسس لمفاجأة من العيار الثقيل، لا سيما إذا شاع الاطمئنان لدى مؤيدى كلينتون بأن فرصها هى الأعلى وبما قد يدفع بعض مؤيديها إلى عدم النزول إلى مقرات الاقتراع، مقابل أن حماس مؤيدى ترامب سوف يجعلهم الأكثر حرصاً على التصويت. بعبارة أخرى أن الفوز بالرئاسة ليس محسوماً بالضرورة لصالح كلينتون.