نخطئ كثيراً ونسىء التقدير إذا اعتبرنا السوق المصرية جزءاً من السوق الرأسمالية العالمية تصدق عليها قوانين العرض والطلب كما تصدق فى الدول الرأسمالية، التى اكتملت مؤسساتها الدستورية فى إطار دولة قانونية تنظم أدوار هذه المؤسسات وحدودها، وتضبط علاقاتها بما يمنع الاحتكار والغش واحتجاز السلع عن العرض، ويوازن بين حقوق المنتجين والموزعين والمستهلكين بحيث لا تفتئت فئة على أخرى، ويوظف المنافسة المشروعة لضبط إيقاع السوق وترشيد هوامش الربح.
وتؤكد الأزمات والاختناقات التى تعيشها السوق المصرية وتتعرض لها معظم السلع الأساسية بصورة متتابعة، ابتداء من الزيت إلى السكر والدقيق مروراً بالأدوية ولبن الأطفال، تضافر فئات عديدة من المحتكرين والمستوردين والموزعين والوسطاء على تعطيل قوانين السوق، وتقليل المعروض بما يرفع حدة الطلب ويخلق حالة الاختناق التى نعيشها بسبب شح المعروض، ويمكن السوق السوداء من ابتلاع السوق الحقيقية، ويرفع الأسعار إلى الحدود التى تروى جشع فئات عديدة لا تشبع من الكسب الحرام!.
ولأن السوق المصرية تعتمد على الاستيراد من الخارج فى نسبة غير قليلة من احتياجاتها تتجاوز 60% فى مواد الغذاء، وتصل إلى 100% فى عديد من السلع الصناعية، أصبح الدولار هى سيد السوق المتوج فى غياب التوازن بين الواردات التى تتجاوز قيمتها 80 مليار دولار والصادرات التى لا تتجاوز 25 ملياراً!، مع نقص المعروض من الدولار نتيجة أزمة السياحة المصرية التى تم اغتيالها قصداً فى إطار خطط إخضاع مصر لهيمنة الغرب والأمريكيين من خلال ثلاثة حوادث لثلاث طائرات وقعت فى غضون أسابيع محدودة تؤكد أن الأمر لا يخلو من شبهة القصد المسبق!، ومن خلال مضاربات جماعة الإخوان المسلمين على تحويلات المصريين فى الخارج خاصة السعودية ودول الخليج التى نجحت فى تغييب الدولار عن البنوك المصرية ليتصاعد سعره إلى 18 جنيهاً مع زيادة الطلب المفتعل عليه فى السوق السوداء.
وقد ساعدت كل هذه العوامل على تمكين المستوردين والاحتكاريين الذين يمارسون أيضاً تجارة العملة على رفع أسعار السلع فى السوق المصرية، نتيجة احتساب سعر الدولار داخل عمليات الاستيراد بحد أدنى قيمته 20 جنيهاً للدولار الواحد، إضافة إلى هوامش الربح العالية!.. فهل يمكن فى ظل هذه الأوضاع التى تكشف حجم التواطؤ والقصد المسبق ونهم الاستغلال وسيطرة الجشع أن نعتبر السوق المصرية جزءاً من السوق الرأسمالية العالمية التى يحكمها قانون العرض والطلب ومعايير الليبرالية الاقتصادية التى تم ترويضها فى مصر لتمكين السوق السوداء من السيطرة وفرض الأسعار التى يمليها جشع هذه الفئات؟.
وما يزيد من حجم الغبن الواقع على المستهلكين أن الدولة فقدت معظم أدواتها على ضبط الأسواق، ولم يعد فى وسعها فرض التسعيرة على أى من السلع تحت شعار حرية الاقتصاد، كما لم يعد فى قدرتها ردع الجشع المتزايد وحصاره من خلال منافذ توزيع تتوخى سعراً عادلاً للسلع وهامش ربح معقولاً؛ لأن الجمعيات الاستهلاكية فقدت دورها ووظيفتها بعد أن نهشها التسيب والفساد والإهمال رغم أن الجمعيات الاستهلاكية كان يمكن أن تكون أهم أدوات موازنة السوق المصرية لو أحسن تنظيمها، وأصبحت تحت إدارة ورقابة المجتمع المدنى فى كل حى، كما هو حالها فى الكويت!، كما تفشى الاحتكار بصورة مزعجة ولم يعد وقفاً على المحتكرين الكبار الذين يسيطرون على سوق الاستيراد ويشكلون مافيات وعصابات محدودة العدد تحتكر استيراد معظم السلع فى عمليات مغلقة تتم دون أى منافسة مشروعة!، وتحول أغلب التجار فى كل حى إلى محتكرين صغار ينظمون المعروض من السلع بصورة تمكنهم من فرض أسعار تحكمية لا تقبل المنافسة، وفى السلع الزراعية خاصة الخضراوات والفاكهة تباعدت المسافات بين سعر المنتج على رأس الحقل وسعره للمستهلك فى أسواق التوزيع وتضاعفت هوامش الربح مرات ومرات بصورة غير عادلة لا نظير لها فى أى سوق فى العالم التى تفرض عادة نسبة 30% حداً أقصى لهوامش الربح فى سلع الاستهلاك اليومى.
ومع الأسف بلغت الصورة حداً كاريكاتيرياً يدعو إلى الرثاء بدلاً من السخرية، لأنه عندما يشتد صراخ الناس من غلاء الأسعار إلى حد البكاء، يكون رد الحكومة سيلاً من التصريحات العنترية الفارغة المضمون عن عزمها تشديد الرقابة على الأسواق!، رغم علم الحكومة أنه فى غيبة التسعير الإجبارى تنتفى سلطتها وقدرتها على ضبط الأسعار، وغالباً ما يكون رد فعل الحكومة بعض الحملات الأمنية التى تستهدف ضبط عدد من مخازن بعض السلع المهربة دون أن تكون لهذه الحملات أى أثر فعلى على خفض الأسعار!.
ما الذى يعجز الحكومة عن القيام بمسئوليتها ويضيع هيبتها إلى الحد الذى يجعلها أشبه بفتوة الحارة الذى داهمه العجز والهرم وعلا صوته؛ لأنه لم يعد قادراً على الفعل؟!.
يعجزها وهم الاعتقاد بأنها جزء من السوق العالمية ينبغى أن تتمسك بقوانين السوق رغم أنها لم تملك بعد أدوات ضبطها ومنع انحرافها، ويعجزها الخوف المتزايد من تشهير الغرب أو عقابه إلى حد يمنعها من البحث عن أدوات جديدة تمكنها من تصحيح أوضاع السوق المصرية المختلة، من خلال تطبيق عادل لهوامش ربح عادلة توازن بين مصالح المنتج والموزع والمستهلك، أو من خلال مناهج إحلال الواردات التى تمكنها من التركيز فى إنتاجها المحلى على سلع تستوردها من الخارج تكلفها الكثير من العملات الصعبة.
إن أحداً لا يطالب بالتسعير الجبرى للسلع لأن التسعير الجبرى يقتل المنافسة ويخنق الازدهار ويمنع التقدم ويبقى على السلع الرديئة فى الأسواق، لأنه يغل يد المنتج عن تحسين نوعية إنتاجه وضمان جودته خوفاً من ألا يجد عائداً مجزياً، وعلى من ينكرون هذه الحقيقة أن يتذكروا كيف كان حال إنتاجنا الزراعى فى ستينات القرن الماضى عندما تدهورت زراعة المحاصيل والفاكهة بسبب سياسات التسعير الجبرى وسياسات فرض زراعة محاصيل بعينها على المزارع المصرى إلى أن نجح د. يوسف والى فى تحرير الزراعة المصرية.
لا نطالب بعودة التسعير الإجبارى لكننا نطالب بدراسة هوامش الربح على السلع الزراعية وهوامش الربح جزء من النظام الرأسمالى لا تخاصمها ليبرالية الاقتصاد!، ونطالب بالتصدى الجاد للاحتكارات لأن الحكومة تعلم جيداً أسماء محتكرى كل سلعة!، ونطالب بتمكين الدولة من أن تدخل طرفاً منافساً فى السوق من خلال إعادة تشغيل الجمعيات الاستهلاكية على أسس جديدة تجعلها جمعيات أهلية يديرها ويراقبها المجتمع المدنى كما هو الحال فى الكويت، وما من شك أن إلغاء الدعم العينى واستبداله بالدعم النقدى سوف يقلل من حجم السوق السوداء ويصحح كثيراً من الخلل فى أوضاع السوق المصرية.
ويبقى أمران مهمان يحتاجان إلى أن تفكر الحكومة خارج صندوق البيروقراطية المصمت:
• أولهما التركيز فى إنتاجها الغذائى على عناصر وجبة مصرية قوامها الأساسى خبز مصنوع أغلبه من القمح المصرى وصناعتى دواجن وتربية أسماك يتوافر لهما القدر الكافى من الأعلاف المحلية بما يمكن الأسرة المصرية بمتوسطات أفرادها الخمسة من وجبة مكتملة لا تتجاوز قيمتها 30 جنيهاً، وأظن أن هذا الهدف سهل التحقيق فى ظل سياسات مصر الزراعية التى تركز الآن على مزارع الدواجن والأسماك.
• وثانيهما حسن استغلال شواطئ بحيرة السد العالى من خلال عودة منظمة لأهالى النوبة، وتشجيعهم على زراعة نخيل الزيت الذى يحتاج إلى الرطوبة والحرارة فى هذه المناطق الشاسعة من سواحل البحيرة كى نوفر على أنفسنا مليارات الدولارت التى تذهب فى استيراد الزيت، وتنمية الثروة السمكية فى البحيرة التى تحولت بسبب الإهمال والصيد الجائر إلى صحراء جرداء بينما تزداد فيها أعداد التماسيح بما يهيئ الفرصة لإقامة مزارع لتربية التماسيح واستثمار جلودها.
أعرف مخاوف الحكومة من احتمالات تلوث مياه بحيرة السد بسبب زيادة الكثافة السكانية، لكن ثمة ضمانات ولوائح وقوانين يمكن أن تنظم إعادة بناء قرى النوبة الجديدة فى عدد من مواقع شواطئ البحيرة بما يضمن حسن استثمار مساحات شاسعة من الأراضى الجديدة تضيف الكثير إلى قدرة مصر الإنتاجية.