مصطفى رحومة يكتب: قصص طواها بخور القداس وغبار التفجير
مصطفى رحومة
المشهد الأول
على بعد أمتار من مقر الكاتدرائية المرقسية بقلب العاصمة، كان الهدوء يلف منطقة العباسية صبيحة الأحد 11 ديسمبر الحالى. حالة ملحوظة من السيولة المرورية لا تخطئها العين، فاليوم يتزامن مع ذكرى الاحتفال بالمولد النبوى الشريف. الأختان «مارينا فهيم» الطالبة بالصف الثالث الثانوى، و«فيردينا فهيم» الطالبة الجامعية، وجدتا فى يوم الإجازة فرصة مناسبة للذهاب إلى الكنيسة البطرسية، لحضور قداس الأحد الأول من شهر «كيهك» أو الشهر المريمى الذى يأخذ طابعاً روحانياً كبيراً لدى الأقباط، وهو المعروف بـ«شهر التسابيح والمدائح والترانيم» وينتهى بعيد الميلاد. قصة الأختين وتفاصيل إنسانية وشخصية عديدة طواها بخور القداس وغبار التفجير، خلال الساعات العصيبة التى تحولت فيها أجواء الكنيسة من صلاة وتضرع لله، إلى ساحة للفزع والرعب.
على باب الكنيسة القريبة من منزل «مارينا وفيردينا» اللتين اعتادتا الصلاة فى «البطرسية»، ألقت الأختان التحية على عم نبيل حبيب، خادم الكنيسة الذى لم تُنسيه المعيشة فى القاهرة لهجته الصعيدية، والذى رزق بطفل تمناه طويلاً منذ أيام وسماه «فادى»، وقبل أن يدلفا إلى داخل الكنيسة ليلحقا بالقداس الذى بدأ برفع البخور، كانت تسبقهما بالخطى إنصاف عادل التى تشابكت يدها مع يد خطيبها بولا كرم، وهما يتحدثان عن ترتيبات الزواج.
أشعلت «مارينا» شمعة أمام صورة العذراء وتمتمت بالدعاء، فيما وضعت «فيردينا» يدها فى شنطتها لتخرج ما جادت به نفسها لتضعه فى صندوق النذور بالكنيسة.
«مارينا» و«فردينا» ودعتهما أمهما عروسين للسماء.. و«ماجى» ابنة العشر سنوات ترقد بين الحياة والموت فى المستشفى
فى الصفوف الأخيرة بالقرب من الباب تراصت الفتاتان بجوار الدكتورة نيفين نبيه، استشارى الأشعة بمستشفى السلام، وزميلتها الدكتورة نيفين عادل أخصائية أمراض النساء والتوليد بمستشفى الشيخ زايد بمدينة أكتوبر، وميس روجينا رأفت مدرسة التربية الفنية بمدرسة القديس ميخائيل بالظاهر بوسط القاهرة، وفى الصف الذى يتقدمهن وقفت السيدة عايدة ميخائيل البالغة من العمر 60 عاماً وهى زوجة القس الراحل إثناسيوس بطرس، كاهن كنيسة مارى جرجس، وبجوارها الطفلة ماجى مؤمن بنت السنوات العشر والطالبة بالصف الرابع الابتدائى بمدرسة كلية رمسيس للبنات.
داخل الكنيسة الأثرية المبنية على الطراز البازيليكى التى صممها مهندس السرايات الخديوية «أنطون لاشك بك»، وزينت جدرانها صور للرسام الإيطالى «بريمو بابتشيرولى»، فضلاً عن لوحات الفسيفساء التى قام بصناعتها «الكافاليرى أنجيلو جيانيزى» من فينسيا، وقف الجميع والكاهن يقرأ الإصحاح الأول من إنجيل لوقا الذى يتكلم عن بشارة الملاك لزكريا الكاهن بيوحنا المعمدان الذى جاء سابقاً للمسيح ليهيئ الطريق أمامه.
المشهد الثانى
بخطى متسارعة وقلب مرتجف وعقل شارد، تحرك «محمود شفيق» ابن الفيوم والطالب بكلية العلوم، متجهاً إلى الهدف الذى تم رصده لاستهدافه.. تسارعت خطاه نحو الكنيسة البطرسية، وتداخلت الأفكار فى عقله الذى غسل ليظن أن الشهادة تأتى بقتل الأبرياء وترويع الآمنين، وأن أبواب الجنة ستفتح له لأنه قتل «كفاراً» كما صور له أئمة الدم، وأن بما ترتكبه يداه من العوث فساداً فى الأرض يساعد فى القضاء على «الطاغوت» ويمهد الطريق لإقامة «خلافة على منهاج النبوة».
وكأنه وهو يتأهب لتلك العملية الغادرة، لم يدر بخلده تلك الآيات الكريمة التى تحض المؤمنين على بر المسيحيين، وكأنه لم يقرأ يوماً بين ما قرأ فى القرآن الكريم الآية التى تقول: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون).
المشهد الثالث
عقرب الثوانى يلاحق الدقائق فى ساعة الكنيسة التى تشير إلى العاشرة إلا خمس دقائق، والموضوعة على الحائط المجاور لمكان وقوف الكاهن الذى أخذ يردد خلفه المصلون المتراصون فى صفوف الكنيسة، الصلاة الربانية «.. ولا تدخلنا فى تجربة بل نجنا من الشرير».
تمكن «محمود» من الدخول، وخلفه «عم نبيل» يحاول إيقافه، وحينما وطئت قدماه أول باب القاعة لم يسمعه أحد ينطق الشهادة بل ضغط على الحزام لينسف جسده وتتطاير شظاياه تحصد أرواح الأبرياء التى ارتقت لبارئها تسأله «بِأىّ ذَنْبٍ قُتلَتْ؟!»، وأى جريرة يحاسبون عليها؟!، وهم من كانوا يقفون يصلون له ويدعون بالسلام لوطنهم.. ولكن «مع الرب ذلك أفضل جداً».
خادم الكنيسة رزق بطفل سمَّاه «فادى» تمناه طويلاً قبل أن يخطفه الإرهابى من حضن صغيره
المشهد الرابع
توقفت ساعة الكنيسة عند لحظة الانفجار، فيما تناثرت الأشلاء على صور العذراء والمسيح، وأغرقت الدماء الإنجيل قبل أن يصل الأرض ويلطخ الجدران، واختلط بخور القداس مع غبار حريق الانفجار، وانتشرت فى المكان رائحة اللحم البشرى المحروق، وتحولت الكنيسة إلى ركام بعد أن كانت صرحاً يذكر فيه اسم الله، والمجرمون تبرأوا من جريمتهم وصنيعتهم «كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنكَ إِنِّى أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ».
ذهب «محمود» إلى ربه ليحاسبه بميزان عدله ومحكم آياته «.. أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً..» (المائدة: 32)، كما خيَّب الله ظنه وأفشل مسعاه ورد كيده هو ومن خلفه فى نحورهم، وما زاد الحادث الذى أثرت بشاعته فى قلوب كل المصريين إلا تماسكاً ووحدة لأن الجميع يجمعهم وطن واحد ويربطهم مصير واحد ويعبدون رباً واحداً ويواجهون عدواً واحداً هو إرهاب لا يعرف ديناً.
المشهد الخامس
هدوء صباح العباسية الذى كان سكوناً يسبق العاصفة، تحول إلى ضجيج من أمواج البشر التى توالت على الكاتدرائية وسيارات الإسعاف والشرطة التى انتشرت فى المكان، فيما لف الحزن المكان، وانهمرت الدموع من العيون، وأصوات النحيب لا تتوقف، فالفاجعة كبيرة والمصاب عظيم، والدم تحت الأقدام يسيل، والغضب فى الصدور يعتمر ترجم فى هتافات ضد بعض المسئولين بسبب الأرواح التى زهقت.
أما المكلومون داخل أسوار الكنيسة هرولوا بحثاً عن ذويهم، تلك تنتحب صديقتها، وهذا يحاول إنقاذ خطيبته التى حمل جثتها يهرول ناحية سيارات الإسعاف، وبينهما أم تبحث داخل ثلاجات الموتى بمستشفى دار الشفاء المواجهة للكاتدرائية عن بنتيها اللتين ودعتهما بابتسامة وقبلة ودعوة بأن يطيل الله فى العمر لتزفهما عروستين وهما خارجتان فى الصباح.
وبين هذا وذاك أب وأم يبحثان عن بنتهما الطفلة ذات الضفائر، بنت العشرة أعوام، لاعبة الكرة الطائرة بنادى وادى دجلة، تلك الصغيرة ذات الابتسامة الساحرة.. طعم الحياة فى فم الأبوين مر علقم، لا يعلمان من أين امتلكا القوة ليستطيعا أن يسيرا ويبحثا عن بنتهما التى أعادت لهما روحهما اللتين ظنا أنهما مفارقتهما، حتى وإن كانت الصغيرة ترقد فى المستشفى بين الحياة والموت مصابة بشظية فى المخ أدت إلى دخولها فى غيبوبة.
«إنصاف» و«بولا» دخلا الكنيسة يتحدثان عن الزواج فخرج الخطيب من «البطرسية» يحمل جثة خطيبته
المشهد السادس
البابا تواضروس فى أثينا، يحيطه الشمامسة والكهنة، يلتقى لأول مرة مع الأقباط فى اليونان، يتحمل آلام الانزلاق الغضروفى فى فقرات ظهره، يصلى القداس، يتوكأ على عصا الرعية، يأتيه سكرتيره يهمس فى أذنه «وقع انفجار فى الكنيسة البطرسية وسقط شهداء ومصابون»، الخبر الفاجعة يقع على البابا كالطامة.. دموعه من أسفل النظارة الطبية تنزلق من عينيه، يخرج منديلاً من جيبه يمسح دموعه فتسقط من الجيب ورقة كان قد أعدها ليلقيها على مسامع الحاضرين يبشرهم بمصر ومستقبلها، وما يلقاه الأقباط فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى.
الاتصالات بين البابا والمقر البابوى فى القاهرة لا تنقطع، الأخبار تتوالى، أعداد الضحايا يتضاعف، البابا حسم الأمر قرر قطع الزيارة والعودة للقاهرة، كان من المقرر أن يجرى بعض الفحوصات الطبية فى الخارج على آلام الظهر التى يعانى منها بشدة، ولكن كل ذلك لا يهم.. إنه القدر وهذا قدره، جاء بلا حول ولا قوة إلى الكرسى البابوى فكان قدره أن يتحمل ما ساقه الرب إليه.
المتحدث باسم الكنيسة القس بولس حليم، داخل الكنيسة البطرسية، يهاتف البابا وينتظر تعليماته بكتابه البيان، فيؤكد البابا على القس أن يخرج البيان مؤكداً على الوحدة الوطنية وتعاليم الكنيسة بأنها تصلى من أجل المعتدين.. الفاجعة كبيرة ولكن الوطنية لا تتجزأ من تحمل حرق عشرات الكنائس عقب ثورة 30 يونيو، قادر أن يقود سفينة الكنيسة إلى بر الأمان رغم العواصف التى تتلاطم بها.
المشهد السابع
الجثامين فى الصناديق بعد أن ارتقت الأرواح، وظلت الأجساد البالية شاهدة على المجزرة.. رصت الصناديق داخل هيكل كنيسة العذراء فى مدينة نصر، ووقف البابا بعينين دامعتين وسطها يوزع النظرات عليها بعد أن رشمها بصليبه، الكاهن يقرأ الإنجيل والشمامسة خلفه يرتلون، والحزن يعتصر القلوب، وبين صرخات الـ«آه» تدوى «زغرودة» فى جنبات الكنيسة التى كسيت بالسواد.
البابا يتحدث عن الكنيسة وتاريخ شهدائها ويزف البشرى لأهالى الضحايا بمكانة الشهداء فى السماء، تعود الزغاريد لتدوى، يتنهد البابا ويواصل الحديث عن مصر والوطن والإرهاب، فمن قال بالأمس «وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن»، لم تسقط مصر والوطن من لسانه وعقله وهو يواصل عظته فى القداس الجنائزى.
بعد الكلمات العذبة، طبق الحزن على الأنفاس، وشعر الأهل بالفراق، فعلا صوت النحيب والصراخ، فوق أصوات طبول المارشال الجنائزى لكشافة الكنيسة، وسقطت السيدة نهلة فاروق بين نعشى بنتيها «مارينا» و«فردينا» تحاول أن توزع عليهما حضنها الأخير قبل أن ينزلا مثواهما الأخير فى مدافن الأنبا شنودة بالمقطم.
المشهد الثامن
الحياة فى «البطرسية» تعود، أجراس الكنائس تدق، والكهنة يطلقون بخور القداس، والشمامسة يرددون الترانيم، والأقباط فى صفوف متراصة يرددون خلفهم.. الأنوف تشم غبار الحرائق أكثر من رائحة بخور القدّاس، الجميع اجتمع يتحدى الإرهاب وفى قلوبهم غصة ألم على ما ألمّ بكنيستهم وهم يستمعون إلى كلام الإنجيل: «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوا لاعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ».
ما زالت حجارة الكنيسة الأثرية شاهدة على ما ألمّ بها؛ بقايا أيقونة لأحد القديسين بين الأطلال، وبجوارها وريقات تحمل آيات من الإنجيل، وصورة للسيدة العذراء ووليدها، تنطق من بين الركام عمَّن جعل الكنيسة خراباً بعد أن كانت داراً يُذكر فيها اسم الله.
هذا يمسك الإنجيل بيده، وتلك تحتضن صليبها، وهم يرددون ترنيمة «مبارك شعبى مصر، ده وعدك من سنين، خيرك أكيد لأنك إله صادق أمين»، فقد يختلف الجميع على المسئولين والتعامل معهم ويشككون ويتشككون فى مرتكبى الأعمال الإجرامية بحقهم، ولكنهم لا ينسون الوطن.
المشهد التاسع
حادث «البطرسية» قد يكون أظهر خللاً أمنياً ما فى ظل الحرب التى يواجهها الوطن مع الإرهاب، ولكن متى كانت دور العبادة تحتاج «جنوداً مدججين بالسلاح» ليحموا مصلين يرفعون أيديهم لله؟ فالبطرسية وقبلها الميراث الطويل من العنف والعدوان على الأقباط وكنائسهم، هذا الفكر المعادى للآخر الذى يبدل حروف «الفكر» إلى «كفر»، لن يحتاج إلى التعامل الأمنى فقط، ولكن يحتاج لفهم صحيح الدين والعودة لأصل الدين فى القرآن والسنة، يحتاج لفهم ما الذى يدفع شاباً صغيراً ليلقى بنفسه للتهلكة، يحتاج لتغيير فكر ونشر ثقافة التسامح ليس عبر منابر المساجد فقط ولكن عن طريق التعليم والثقافة والإعلام، وليعلم الجميع أن طريق التغيير طويل وهو غير مفروش بالورود ويحتاج صبراً حتى يؤتى ثماره.