خصصت الأمم المتحدة الثامن عشر من ديسمبر، من كل عام، للاحتفاء بلغة يتحدث بها نحو نصف مليار بشري (من جملة سبعة مليارات هم سكان المعمورة).. يحلو لنا في هذا اليوم أن ننكأ الجرح الذي ما اندمل، تصديقًا لقول العرب قديمًا: (ما حكَّ ظهرَك مثلُ أظفرك).
توصيات ومؤتمرات.. حشود وتكاليف، ورش عمل وندوات.. ثم يحمل الجميع عصاه ويرحل، تاركًا العربية في حالة التأزُّم، ووحل الارتباك.. ضائعة الهوية، بين أناس رأوها (موطن الأبعار والشاوي المشلّ وعيون المها)، ومن يرغب في حذف مثناها، وتعطيل تاء تأنيثها.. بين الإفراط في تقديسها حدّ تصييرها تمثالًا أبكم، والتفريط في احترامها حد جعلها لغة الدهماء!
أزمة ممتدة بين من يراها محفوظة من جملة الوحي، ومن يعرف أنها لغة كأي لغة جهود أبنائها فقط هي التي تعصمها من الانقراض..
أزمة العربية هي أزمة ناطقيها الذين قال عنهم نزار:
يتقاتلون على بقايا تمرةٍ *** فخناجر مرفوعة وحِرَابُ
انكمشت العربية على ذاتها وتقوقعت، وأوشكت على الانغلاق.. أُمُّ العِلْم لم تصمد أمام التكنولوجيا، تجرأت عليها الأسماء الإنجليزية، التي انتقلت من الطب والهندسة إلى عناوين صالونات الحلاقة، وتترات المسلسلات.
أمام هذه البنية العظيمة من النهضة العلمية الحضارية توقف علماء المعجمات وأساتذة العربية متحيرين، خائفين من فتح الباب لاستحداث ألفاظ، ومجاراة الوقائع، جعلوا من أنفسهم (حماةً للعربية) فوقفوا على أبوابها، يستذكرون ألفاظ (الأشائب – وتتكاءد – وكميتة) يحاولون بث الحياة فيها، وصعقها لإعادة النبض.. ويحولون دون دخول (أرشيف – وأبلة – وإسمنت) إلى فضاء العربية، ويصفونها بالدخيلة!
وضعوا محرمات (تابوهات) لاستخدام اللفظ القرآني في غير ما وُضع له، وسدوا الباب أم اشتقاقات جديدة على غير قياس.. نسوا أن ديدن اللغات التطور والارتواء من كل معين، وأن عربية القرآن ذاتها جاءت من عربية أخرى كان فاشية حتى بعد عصر صدر الإسلام.. معاجمنا تحتاج إلى إخراج نصفها ووضعها في المتحفات للمستزيد («الإبردة»: عِلَّة معروفة، و«الغريف»: نبت معروف، و«الجريب»: مكيل معروف، بالطبع لابن منظور وليس لنا، من يصدق أن «الوسيط» يجهل كلمة مُضيفَة وفوَّالة؟!).
أما التراكيب، فحدِّثْ ولا حرج؛ ما زال النحو يدور حول العامل لا يبرحه، حتى بعد نشأة علوم النص الحديثة، والمدونات اللغوية، وبرامج التشكيل الآلي.. ما زال التركيب العربي ينبني على قول ابن مالك:
فما أُبِيحَ افعلْ ودَعْ ما لَمْ يُبحْ
في معيارية تأباها روح اللغة، وتسلُّط على المتلقي ابن اللغة، وتقييد يضادّ قول العرب أنفسهم: (إن أنحى الناس من لا يُلحِّن أحدًا).
المستوى الذي تعالجه قواعد النحو ينبغي أن يتخلص من الخلاف بالإباحة، والمناهج التي تُلقَّن للباحثين يجب أن تنعتق من مفاهيم الصحة والخطأ إلى مفاهيم الإباحة وطلاقة الروح العربية، ووضع الوصفية في مواجهة المعيار، سوى في تعليمية اللغة للأطفال الصغار.
لا أدعو إلى غزو العامية للفصحى (دعوة الشيخ سلامة موسى) أو حذف التثنية من العربية (دعوة شريف الشوباشي) أو هدم النحو التقليدي كلية (دعوة خليل كلفت).. لكن أدعو أن يفتح (حرَّاس اللغة) الأبواب قليلًا، مراقبين ما يدخل إلى المعجم وما يتسرب إليه، دون تفنيد، فيضعوه في مكانه على هامش المعجم، حتى إذا استقر استفادت العربية وقويت.. أن ينظروا إلى جديد التراكيب، وحديث الاستخدام، ويضعوه على هامش الدرس اللغوي، فإن نما احتوته العربية، وإن مات فالعربية تتطوَّر بجثث المهمل منها والميِّت.
علموا الأطفال أن العربية لغة الأراجيز والأغاني، أوضحوا لغير ناطقيها أن قواعدها ميسَّرة تخاطب العقل والوجدان، ولهاجريها من أبنائها أنها لغة الأحاجي والكلمات المتقاطعة، وأن المسألة الزنبورية تخص سيبويه فحسب، نتعلمها لنضحك، وأن قاعدة الكحل لغز نحوي، وأن بابَيْ الاشتغال والتنازع للمتعمقين في الدرس اللغوي وليس لطلاب الثانوية الأزهرية.. وأن (الصمادح والخنفيق) لفظتان انقرضتا.. وأن القسطاس والمهرجان والبازار ألفاظ عربية من أصول أجنبية لم تعد دخيلة بعد الآن، وأن البلاغة ليست تقعير اللفظ وتعقيد التركيب، هي الوضوح في الرؤية والعمق في المعنى، وأن الألفاظ - لا المعاني - مطروحة في الطريق.
اللغة كائن حي.. ونحن بإهمالنا له وحصره في هرم زجاجي لا منفذ فيه لأشعة الشمس، ولا للهواء العليل، نقتله!!
أتحبون أن تقتلوا أمَّكُم!!