ما الجدوى من قرار يدين مجرماً بإجرامه؟ وماذا فعلت الإدانات الدولية السابقة لأنظمة محتلة وأخرى مستبدة وأخيرة إرهابية؟!
سؤالان لا أقصد بهما التقليل من قرار مجلس الأمن بشأن إدانة الأنشطة الاستيطانية لدولة الاحتلال الإسرائيلى، ولكن أسعى من خلاله لوضع الأمور فى نصابها الصحيح دون تهويل (اعتدنا عليه)، أو تهوين (مللناه)، فلا شك أن تمرير هذا القرار يمثل نجاحاً دبلوماسياً (لا أكثر) فى توحيد موقف دولى مباشر ضد دولة الاحتلال، لكنه أيضاً ليس بالصفعة الكبرى، أو النصر المبين الذى سيرد الحق لأصحابه.
ففى رأيى أن لعبة قرار الإدانة ما هى إلا «عقبة تسليم وتسلم» وضعتها إدارة الديمقراطيين الراحلة أمام إدارة الجمهوريين المقبلة، كما إنها «صفعة انتقامية» من الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته، باراك أوباما، إلى رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، الذى لم يتجاوز خلاف أمريكا للاتفاق النووى مع إيران، وأهان أوباما أكثر من مرة، بل ورفض طلباً للقائه، وفى النهاية سيظل قرار مجلس الأمن قراراً أشبه بالسباب من وراء الجدران، ولن يتبلور إلى إجراءات فعلية على الأرض، مهما سعت السلطة الفلسطينية، من دون رغبة وتوافق مع واشنطن بإدارتها الجديدة.
أمام هذه المعادلة، جاء الدور المصرى فى مجلس الأمن، أشبه بقصة صيّاد منحه القدر قارباً وسنارة، فسعى لاصطياد سمكة تسد جوعه وأشقائه، وحينما اقترب من اصطياد واحدة من أسماك البساريا التى بالكاد تراها العين المجردة، فوجئ بسفينة صيد ضخمة تبحر نحوه، ويدعوه ربانها لترك السمكة التى لا تسمن ولا تغنى من جوع، لأن صيدها سيتسبب له فى مأزق، وفى المقابل ستتم دعوته وأشقائه على مائدة عامرة بسمك التونة العملاق، مع وعد بمكاسب رد الجميل.
فإذا ذهبنا لمفردات السياسة التفاوضية، سنجد أنها تتمثل فى السعى لتحقيق أكبر مكسب ممكن مما تتفاوض عليه، ومن ثم ووفقاً لهذه المعطيات، هل أذهب إلى قرار إدانة سيؤدى إلى ستة مشاهد وإجراءات:
1- تهليل صحفنا وإعلامنا المصرى، وبعض من العربى، لـ«الصفعة» المصرية والموقف الشجاع والعنترى لنصرة القضية.
2- المزيد من التبجح والجرم الإسرائيلى، وليذهب الأمن الدولى ومجلسه إلى الجحيم، (وهو ما حدث بالفعل فور صدور الإدانة، بإعلان تل أبيب عدم التزامها بالقرار الدولى).
3 - توتر «حقيقى» فى العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وتل أبيب، بما يضر عمق وصلب الملف الحقيقى للسلام العربى - الإسرائيلى.
4 - خلاف استباقى بين القاهرة والإدارة الأمريكية الجديدة، لكونها بتقديم هذا المشروع ساهمت فى مخطط أوباما الهادف لإحراج ترامب وتكبيله.
5 - تنحية مصر تماماً من أى دور فى نصرة القضية الفلسطينية، بمجرد انتهاء عضويتها فى مجلس الأمن، كمطلب رئيس لإسرائيل وأمريكا.
6- بروز دور دول أخرى تسعى لاختطاف هذا الملف، بغية المتاجرة به واستغلاله فى الظهور الدولى وإبرام صفقات الدم. (وقتها لن تمانع السلطة الفلسطينية من تنحية مصر، واستبدالها بأخرى طالما المصلحة تحكم، ولن يتذكر أحد ما فعلته مصر بمشروع قرارها).!
أما عدم تبنى مصر لهذا القرار الدولى، والاكتفاء بالتصويت عليه لصالح إدانة الكيان الإسرائيلى، فسوف يؤدى إلى ستة مشاهد:
1- تهليل صحفنا وإعلامنا المصرى لـ«التراجع الشجاع والعنترى»، لنصرة القضية.
2- تسجيل جِميلة عربية (بكسر الجيم)، وخلق موقف تفاوضى إيجابى يلزم إسرائيل بعودة الملف الفلسطينى إلى طاولة الحوار على طريقة «تقديم السبت».
3- عدم التورط -طوعاً أو بالاستخدام- فى مخطط «الفاشل المخرب» أوباما لإحراج خليفته فى البيت الأبيض. (ودى جِميلة تانية).
4- استعادة مصر دورها الفاعل والمحورى فى القضية الفلسطينية، بمفردات جديدة بعيدة عن لعبة التبعية.
5 - حرق مساعى الصيد فى مستنقعات السياسة، لاستمرار تقويض الدور المصرى فى ملف السلام. (وقتها ستشدد السلطة الفلسطينية على أن ملف السلام، كان يعانى فى غياب مصر).!
6- حصد إيجابيات عدم الاستهانة بالدور الأمريكى وتقدير قيادته الجديدة، (ولا أقصد الخوف منها)، وهى إيجابيات لها أبعاد سياسية واقتصادية وأمنية، نحن فى أمس الحاجة إليها.
ملحوظات مهمة:
أولاً: اختبارات كثيرة تعرض لها النظام السياسى الحالى، وأثبت فيها عدم رضوخه لضغوطات هزّت كثيراً من شعبيته وجماهيريته، بل وكادت تنال منه.. فهل من المنطق أن ينصاع لضغوط فى قضية «ميتة إكلينيكياً»، فى الوقت الراهن؟!
ثانياً: فى الموقفين (سواء تبنّت مصر القرار الدولى، أو لم تتبنه) كنا سنرى الهجمة الفيس بوكية المعتادة، نظراً لما نمتلكه من وفرة فى المُنظّرين والخبراء الاستراتيجيين العالمين ببواطن الأمور، وخفايا كوكب الأرض.
ثالثاً: شاء من شاء وأبى من أبى، فإن مصر ستظل أفضل من يتولى دفة ملف السلام العربى - الإسرائيلى، وإلى من يختلف معى أُذكّر بالقطيعة شبه العربية لمصر، حينما انحاز الرئيس الراحل أنور السادات للسلام، فوقتها كانت السلطة الفلسطينية من المعارضين لهذا المنحى، لكن بمرور الوقت شهد الجميع ببعد النظر المصرى فى هذا الأمر، وترحموا على أيام التضحية من أجل الصالح العربى.!!