الدكتور محمد البنا: قدراتنا التصديرية محدودة ونحتاج إلى التعليم المشمول بالتدريب لرفع إنتاجية العامل
د. محمد البنا
قال الخبير الاقتصادى الدكتور محمد البنا إن الإجراءات الإصلاحية الأخيرة التى اتخذتها الحكومة تحتاج إلى مراجعة عاجلة وشاملة، وإن الاستمرار فى تطبيق هذه الإجراءات وفقاً لاتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولى قد يفضى إلى كارثة ونتائج عكسية بعد انتهاء البرنامج الزمنى خلال 3 سنوات. وأضاف أستاذ الاقتصاد بجامعة المنوفية، فى حواره لـ«الوطن»، أن الطبقة المتوسطة هى التى ستدفع فاتورة الإصلاح وليس الفقراء المشمولين نسبياً بمظلة الدعم. وتابع أن الحكومة لجأت لبعض هذه الإجراءات ومنها ضريبة القيمة المضافة من باب «الاستسهال». وأوضح الخبير الاقتصادى أنه دون خطة وطنية للتنمية الاقتصادية، ودون الاهتمام بقضايا التعليم المشمول بالتدريب، لن تحقق مصر التنمية الاقتصادية المُرضية.. وإلى نص الحوار:
د. محمد البنا: الاتفاق مع صندوق النقد يسحق الطبقة المتوسطة.. وقرارات الحكومة تناقض أهداف برنامجها
■ هناك حالة جدل كبيرة حول جدوى برنامج الإصلاح الاقتصادى للحكومة، والذى باركه صندوق النقد الدولى.. وبداية وقبل أن نخوض فى تفاصيل البرنامج، هل يمكن أن توضح لنا هدف الصندوق وفلسفته بصفة عامة؟
- هناك بعض الحقائق التى يجب أن يعرفها الجميع عند الحديث عن صندوق النقد، أولها أن الصندوق معنى بوضع ميزان المدفوعات (التجارة الدولية)، خاصة حالات العجز والفائض، وأسعار صرف العملات الأجنبية. ومنهج الصندوق فى التعامل مع اختلالات ميزان المدفوعات وعلاجها هو منهج نقدى Monetary Approach ينطلق من أن حالة العجز فى الميزان ترجع إلى أسباب تتعلق بالمعروض النقدى (كمية النقود المتداولة)، وحالة المستوى العام للأسعار (التضخم)، وأن المرجع الأساسى للتضخم هو العجز المالى (عجز الموازنة العامة للدولة).. وينتهى هذا المنهج إلى أن التضخم يؤدى إلى انخفاض الصادرات وزيادة الواردات، فضلاً عن مغالاة فى سعر صرف العملة المحلية، ومن ثم يحدث العجز فى ميزان المدفوعات.
■ هذا هو مدخل الصندوق ومنهجه.. فماذا عن طريقته فى علاج عجز الموازنة وميزان المدفوعات؟
- رغم إمكانية تباين الإجراءات والسياسات اللازمة لتنفيذ برنامج الصندوق، من دولة إلى أخرى، فإن الأسس واحدة، والهدف واحد من روشتة الصندوق، وهو استقرار ميزان المدفوعات وسعر الصرف الأجنبى. وقد يترك الصندوق للحكومة المعنية حق اقتراح واتخاذ الإجراءات سواء لتقليص عجز الموازنة أو لكبح جماح التضخم، ويتم ذلك من خلال سياسة مالية، وسياسة نقدية، كلتاهما تقييدية (انكماشية)، ومن هنا نجد دائماً تركيز بعثات الصندوق على لقاء وزير المالية المسئول عن عجز الموازنة، ومحافظ البنك المركزى المسئول عن التضخم والمعروض النقدى، أى التركيز على لقاء المسئولين عن السياسة المالية والسياسة النقدية.
الدولة قادرة على تحسين مستوى معيشة المواطنين دون التوسع فى الإنفاق وتجارب الدول الأخرى خير دليل
■ لكن معنى ذلك أن الصندوق غير معنىّ بأى أبعاد أخرى اجتماعية أو تنموية؟
- النمو أو التنمية والتشغيل والحماية الاجتماعية، لم تكن ضمن اختصاصات ولا اهتمامات الصندوق، إلا بعد التداعيات التى كانت تعقب كل تطبيق لوصفة الصندوق بخصوص علاج عجز ميزان المدفوعات واستقرار سعر الصرف (تحرير سعر العملة)، لكن الصندوق وعى الدرس، وأصبح يشجع على بعض الإجراءات التى تتعلق بحماية الفقراء، وتشجيع النمو والتشغيل، بغرض تحسين الصورة، ويتعامل معها باعتبارها نتائج لبرنامج الإصلاح الاقتصادى الذى يقترحه، خاصة عند تقديمه بالتعاون مع البنك الدولى المعنى بالتنمية الاقتصادية.
■ نعود إلى الحالة المصرية.. كيف يشخص الصندوق مشاكل اقتصادنا؟
- يحصر الصندوق مشاكل الاقتصاد المصرى فى 3 مشاكل رئيسية:
1: مشكلة عجز ميزان المدفوعات وما يترتب عليها من نقص فى موارد النقد الأجنبى والاحتياطى الأجنبى.
2: مشكلة العجز المالى فى الموازنة العامة للدولة، وما يترتب عليها من تفاقم حجم الدين العام.
3: المشكلة الثالثة وهى طويلة الأجل وتتعلق بالنمو والتشغيل وتتمثل فى انخفاض معدل النمو الاقتصادى وارتفاع معدل البطالة.
ويقوم الصندوق بتصميم برنامجه لمعالجة هذه المشاكل على النحو التالى: تحرير سعر الصرف الأجنبى حيث يرى الصندوق أنها أنجح وسيلة لعلاج مشكلة ميزان المدفوعات (أى نقص الصادرات وزيادة الواردات)، ومن هنا قام البنك المركزى بخفض سعر الجنيه مقابل العملة الرئيسية (الدولار الأمريكى) وترك السعر لآليات السوق، إطلاقاً لقوى الطلب والعرض الكفيلة بإعادة التوازن لميزان المدفوعات. ووفقاً للبرنامج فإن تخفيض قيمة العملة الوطنية سوف يشجع الصادرات، وتتوسع الصناعات التصديرية، ويزيد التشغيل (وتحل مشكلة البطالة).
أما عن جانب العجز المالى فقد عمدت الحكومة إلى تطبيق ضريبة القيمة المضافة لزيادة الإيرادات العامة، وقامت الحكومة برفع الدعم عن المحروقات وتجميد فاتورة الأجور من خلال إصدار قانون الخدمة المدنية.
■ وإلى أى حد تتفق مع منطق الصندوق فى تشخيصه للمشكلة وعلاجها؟
- لن أختلف كثيراً مع تشخيص الصندوق لمشاكل مصر الاقتصادية، فالصندوق يرتبها على أساس عجز ميزان المدفوعات أولاً، وعجز الموازنة العامة ثانياً، ثم انخفاض معدل النمو والبطالة. ومن وجهة نظرى تأتى مشكلة انخفاض معدل النمو الاقتصادى وارتفاع معدل البطالة أولاً، وعجز ميزان المدفوعات ثانياً، ثم عجز الموازنة العامة، لكنى قد أختلف طويلاً مع سبل الحل والسياسات والإجراءات التى وردت فى برنامج الصندوق، والتزمت بها الحكومة حرفياً وزيادة.
■ إذن، المشكلة ليست فى وصفة الصندوق ولكن فى طريقة تطبيق الحكومة لهذه الوصفة؟
- نعم، فمن وجهة نظرى فإن تخفيض سعر العملة بهذه الصورة وإلى هذا المستوى أشعل نيران الأسعار المحلية، ومن ثم أطاح بميزة تخفيض سعر العملة الوطنية التى كان من المنتظر أن تزيد من حجم الصادرات (إذا ما ظلت أسعار السلع الوطنية على حالها)، ولا يتوقع أن تنخفض الواردات بالنسبة نفسها، أو بنسبة أكبر من ارتفاع أسعار المنتجات الأجنبية، مقدرة بالعملة الوطنية (بعد تخفيض سعر العملة الوطنية)، ومن ثم لن ينصلح حال ميزان المدفوعات، ولن تزيد موارد البلاد من النقد الأجنبى أو يستقر سعر الصرف الأجنبى، كما أن السعى لزيادة الإيرادات العامة من خلال إدخال ضريبة القيمة المضافة، وخفض دعم الوقود، ورفع أسعار الطاقة وبعض رسوم الخدمات، لا يتوقع أن يزيد من حجم الإيرادات العامة كثيراً، مع اختلال منظومة الضرائب على الدخل (على الأفراد وعلى الشركات)، فضلاً عما ترتب على تلك الإجراءات من تغذية الاتجاهات التضخمية.
المشكلة ليست فى «روشتة الصندوق» ولكن فى تطبيق الحكومة لها.. وتخفيض سعر الجنيه بهذه الصورة أشعل الأسعار
■ لكن الصندوق امتدح مؤخراً أداء الحكومة وقراراتها؟
- أكثر ما يمكن رصده من نجاحات فى المرحلة الحالية هو التزام البنك المركزى بتحرير سعر الصرف الأجنبى، ربما إلى أبعد مما طلب الصندوق، واتباع سياسة نقدية انكماشية برفع سعر الفائدة، ومن ثم تقييد الائتمان والسعى لخفض المعروض النقدى، وهو ما لا يرجى معه التحفيز على الاستثمار وزيادة الطاقات الإنتاجية، ورفع معدل النمو الاقتصادى، كما يحسب للحكومة (من وجهة نظر الصندوق) الإقدام على زيادة الضريبة غير المباشرة وتقليص دعم الطاقة، وضبط الأجور فى القطاع الحكومى، ومن ثم الأجور فى القطاع الخاص، وهو ما أسفر عن سحق الطبقة الوسطى، تحت نيران ارتفاع الأسعار وسوء الخدمات الحكومية فى مجالى الصحة العامة وتردى أوضاع التعليم. وفى ظل تلك الأوضاع لا يتوقع أن ينخفض حجم العجز فى الموازنة العامة كثيراً، ولا ينتظر كبح جماع التضخم قريباً.
■ معنى ذلك أن هناك تناقضات فى البرنامج؟
- صحيح، والتناقض الأول يتمثل فى أن سعى البرنامج لمكافحة التضخم من خلال سياسات مالية ونقدية انكماشية، كان من خلال إجراءات رفعت من مستوى الأسعار، سواء عن طريق التوسع فى الضريبة على السلع والخدمات بتطبيق ضريبة القيمة المضافة، وما أسفرت عنه من رفع مباشر للعديد من السلع والخدمات، أو حينما تم تخفيض الدعم على المحروقات فرفع من الأسعار بشكل تلقائى للعديد من السلع والخدمات. من ناحية أخرى كما قلت لك سابقاً، أعتقد أنه رغم سعى البنك المركزى لاتباع سياسة نقدية تقييدية (انكماشية) برفع سعر الفائدة، والتحكم فى المعروض النقدى، فإن التخفيض المبالغ فيه فى سعر الجنيه رفع من الأسعار سواء للمنتجات المحلية أو المستوردة، أو المحلية التى تعتمد على مدخلات مستوردة.
والتناقض الثانى يتعلق بصعوبة مواجهة المشكلة الأولى التى يتصدى لها البرنامج وهى عجز ميزان المدفوعات ونقص حصيلة البلاد من النقد الأجنبى وتراجع الاحتياطات الأجنبية، حيث يعتمد البرنامج على آلية سعر الصرف فى تحقيق التوازن من خلال زيادة الصادرات (زيادة حصيلة النقد الأجنبى) وتخفيض الواردات (تخفيض الطلب على النقد الأجنبى).
الاستثمارات الأجنبية لا تقود النمو.. ورفع أسعار الوقود والخدمات وفرض «القيمة المضافة» لن يزيدا الإيرادات كثيراً
■ كيف حدث هذا الخلل رغم أن الحكومة تطبق وصفة علمية مجربة؟
- إذا كانت النظرية الاقتصادية تؤكد من حيث المبدأ أن تخفيض سعر الصرف الأجنبى للعملة الوطنية يمكن أن يسفر عن علاج العجز فى ميزان المدفوعات، على أساس أن الطلب على النقد الأجنبى سوف ينخفض مع ارتفاع أسعار الواردات (مقدرة بالعملة الوطنية)، وأن عرض النقد الأجنبى سوف يزيد، مع انخفاض أسعار الصادرات (مقدرة بالعملة الوطنية)، فإن السؤال هو «إلى أى مدى ستزيد الصادرات، وإلى أى مدى ستنخفض الواردات؟»، وهى مسائل تتعلق بمرونة الطلب على كل من الصادرات والواردات، أى بدرجة استجابة كل من الطلب على النقد الأجنبى والمعروض منه، عندما يتم تخفيض سعر العملة الوطنية. وتشير حقيقة الوضع الاقتصادى فى مصر إلى ضعف هذه المرونات، فلا الصادرات ستزيد بنفس نسبة ما حدث من انخفاض فى أسعار المنتجات المحلية، مقدرة بالنقد الأجنبى، ولا الواردات ستنخفض بنفس نسبة ما حدث من ارتفاع فى أسعار المنتجات المستوردة مقدرة بالعملة الوطنية.
ويرجع انخفاض مرونة الطلب على الواردات إلى طبيعة المنتجات المستوردة، سواء الاستهلاكية، أو المنتجات الوسيطة، أو الآلات والمعدات، وكلها منتجات أساسية ولا بدائل محلية أمامها.
■ هل كانت هناك سياسات أو برامج بديلة؟
- بافتراض أننا سنقبل منهجية الصندوق وتوجهاته، فإن تقليص عجز الموازنة العامة كان يمكن تحقيقه بعيداً عن التأثير على المستوى العام للأسعار. فعلى سبيل المثال كان بالإمكان تطوير وإصلاح الضريبة على الدخل سواء دخل الأشخاص الطبيعيين، أو الضريبة على الشركات، بعيداً عن الضريبة على السلع والخدمات التى تنصرف مباشرة إلى ارتفاع فى الأسعار.
التنمية والتشغيل والحماية الاجتماعية لم تكن ضمن اهتمامات صندوق النقد.. وأصبح يشجع على بعض الإجراءات التى تتعلق بحماية الفقراء
■ لماذا لجأت الحكومة للقيمة المضافة ولم تلجأ للضرائب المباشرة التى لا يترتب عليها آثار تضخمية؟
- لأنها اسهل للحكومة التى لا ترغب فى مواجهات مع أصحاب الشركات وأصحاب الأعمال.
■ ما الذى تقترحه لمواجهة المشكلة؟
- هناك مجالات لتحسين أحوال المعيشة فى الأجل القصير، دون تكلفة نقدية باهظة، من هذه المجالات:
1: وضع نظام حديث للتأمين الصحى لتوفير الرعاية الصحية الشاملة.
2: وضع برنامج وطنى لصيانة الأصول الإنتاجية والإحلال والتجديد فى كل المجالات، خاصة الصناعات الوطنية.
3: إصلاح النظام الضريبى خاصة الضرائب على الدخل، لتحقيق درجة أعلى من العدالة، ومكافحة التهرب الضريبى.
4: إصلاح نظام التأمينات الاجتماعية والتحول به إلى نظام الدفع عند الاستحقاق بدلاً من نظام التمويل الكامل الذى تطبقه شركات التأمين الخاصة.
إصلاح منظومتى الضرائب والتأمين الصحى ووضع برنامج لتطوير الصناعات كفيل بحل مشكلاتنا
■ هذه مقترحات لتخفيف حدة البرنامج فى الأجل القصير.. لكن ماذا عن الحلول طويلة الأجل التى تكفل تنمية اقتصادية مُرضية؟
- نحن بحاجة إلى التعليم المشمول بالتدريب لرفع إنتاجية العامل.. الفترة المقبلة هى فترة الهند لاهتمامها الكبير بالتعليم، والهند ستحل محل الصين كقوة اقتصادية عالمية، لهذا السبب لا يمكن إغفال دور التعليم فى دفع نمو الاقتصاد.
أمر آخر مهم جداً، وهو أن حكومتنا تراهن على تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة، رغم أنه من المسلم به اقتصادياً أن الاستثمارات الأجنبية لا تقود النمو، إنما تأتى فقط حين تنجح بلد فى تحقيق معدلات استثمار ونمو يغرى المستثمر الأجنبى بالاستفادة منه، ما يعنى أنه لا بد من التركيز أولاً على تحسين المناخ للمستثمر المحلى من خلال تحسين البنية التحتية كالطرق ووسائل الاتصال، والتشريعات الجيدة والأهم توفير عامل جيد ومدرب.