فرق كبير بين التعدى بالبناء على أكثر من 300 ألف فدان زراعية فى الوادى والدلتا، وعلى ضفتى النيل، من أسوان إلى الإسكندرية، منذ ثورة 25 يناير حتى اليوم، وغزو الصحراء لمن باعوا الغالى والنفيس بهدف التوسع فى تعمير الصحارى، وتخفيف التكدس من قلب الوطن الكهل إلى أطرافه الجديدة الشابة.
فرق شاسع بين من حمل متاعه وأولاده وباع أرضه ورهن مصاغ زوجته وزوجات أبنائه، مؤمناً بآية «السعى فى مناكب الأرض»، ومن تجاسر على حرث سنابل القمح وعيدان البرسيم الخضراء، ليحول أخصب أراضى مصر إلى «أحواش خردة»، ومعارض توكتوك، ومواقف سيارات نقل، وعشش عشوائية، تمهيداً لبيعها بالمتر.
بعد ثورة 25 يناير عانت مصر بطولها وعرضها من الانفلات الأمنى، الذى ساهم فى تفريخ الانفلات الأخلاقى أيضاً، فتحول كبت الفلاحين المرتبط بخسائر الزراعة على مدى 10 أعوام مضت، إلى غل مضاد تجاه الفلاحة، للفوز بما يعرف فى مصر بـ«أرض مبان»، ولا مقارنة بين سعرى الأرض الزراعية وأرض المبانى.
ولأن المخالفين اعتادوا «التحركات المرتعشة» للشرطة والمحليات فى تنفيذ الإزالات على سبيل «التنفيذ الشكلى»، لم نر على أرض الواقع إزالات حقيقية، ولم يتوقف الزحف الهمجى على الأراضى الزراعية، ليستمر معدل الخسران الغذائى والبيئى والاقتصادى عند نحو 50 ألف فدان سنوياً، وليجنى المجرم الحقيقى الأرباح، وليكون نصيب معمرى الصحارى «جزاء سنمار»، بوصفهم معتدين، و«سارقى حق الشعب»، على الرغم من أنهم يحولون الصحارى إلى وديان جديدة للتنمية والعمار.
الإزالات التى تنفذها الدولة فى الصحراء حالياً، ستوقف حتماً بيع الأرض ورهن البيت فى الوادى والدلتا، بهدف زراعة الصحراء، لكنها لن تعيد ما دفعه ملايين المصريين لبائعى «وضع اليد» من أبناء قبائل الأعراب ساكنى الصحارى، حيث ساد العرف بحقهم فى تقسيم الصحراء إلى أحوزة قبلية، تعرفها الدولة جيداً.
ولأن شق الطرق فى المجتمعات الجديدة يسهّل مرور قوافل التعمير والتنمية إلى قلب الصحراء، استبقت الدولة الزحف إلى الصحراء، بإعلان تليفزيونى مكرر بعدم السماح بالبناء أو الزراعة على جانبى الطرق الجديدة التى تشق الصحراء الغربية، بعمق 2 كيلومتر، ما دفع للاطمئنان بالعمل خارج الحد المعلن، صوناً للجهد والمال من هدر الإزالات.
هذه الطرق جسدت أحلاماً جديدة بطولها وعرضها لآلاف الباحثين عن فرص العمل، وتشغيل أبنائهم من الخريجين فى قرى مصر، فصالوا وجالوا حتى حطت رحالهم فى مواقع متناثرة، فكوا عندها أحزمتهم بما حملوه من أموال وأمتعة، ليحولوها إلى آبار، ومحطات شمسية، وطرق، وشبكات رى، ومبانى عمال، ثم زراعات جادة تجسد الأمل فى مجتمعات، تتوازى مع خطط رئيس الدولة وأحلامه فى إنشاء مجتمعات عمرانية جديدة منتجة ومفرحة.
هذه الخلايا المتناثرة فى جسد الصحراء، أثبتت قدرتها على التكاثر الذاتى بالتوسع، أو بجذب المزيد من المتطلعين للحياة فى «البراح»، لتجسيد أنوية كبيرة تصلح بالتجويد لخلق كيانات زراعية عملاقة، تحت إشراف الدولة، وذلك بالتدخل الحاسم لتقنينها، ورسم الأطر المؤسسية لجعلها منظومات إنتاجية رسمية، تعظّم ما تم تجميده فيها من أموال خاصة، ويسدد أصحابها للدولة أثماناً رحيمة لهذه الأراضى، فتضخ للخزينة العامة مليارات، بدلاً من هدمها وتدميرها، مع أحلام الحالمين فى دولة الرخاء.
إذا كانت الدولة قد أظهرت فعلاً العين الحمراء لإزالة ما تراه «تعديات» على خططها «المسقعة» لصالح مستثمرين، فكان من الأجدى الاستقواء الطبيعى والمنطقى والمشروع، لإنقاذ المزروعات المثمرة من تحت العشش العشوائية، ومخازن التكاتك والخردة، فى غيطان مصر الخضراء، حيث يستلزم تحويل فدان رملى إلى طينى أكثر من 60 عاماً من المعاملات الزراعية التقليدية الجادة، مع الرى بالغمر والتسميد العضوى، لتربية الخصوبة، والنماء المستدام الذى تتصف به أراضى «وادى ودلتا» النيل.
إن أقل ما يستحقه غزاة الصحراء شهادات تقدير «تقنين»، لقاء ما أوجدوه من حركة تنموية هائلة، أسالت جمود الاستثمار فى صناعة مواسير شبكات الرى، ومؤسسات وكتائب حفر الآبار، ومصانع وشركات ومحلات بيع الأسمدة والمبيدات، وورش الصيانة، إلى جانب البيوت التى فتحت أبوابها بأرزاق جديدة، لقاء تشغيل العمالة، وإشاعة أجواء الرغد فى بيوتنا الريفية.
الإزالات التى تنفذها الدولة حالياً، ربما تستند إلى استغاثات حكومية وقرارات لجان مكتبية، تظن أن المستثمر الموعود بهذه الأراضى سيكون الأوفى والأجدى نفعاً من آلاف الأسر المصرية التى آمنت بفكر الرئيس السيسى، ونداءاته المتكررة بضرورة العمل من أجل الإنتاج، فباعت كل ما ملكت لتلبية النداء، دونما حساب لاحتمالات الضياع فى الصحارى، ودونما اعتبار لقسوة المعيشة، وغلبة الحياة بعيداً عن العمار.
أجزم بأن هذه اللجان المكتبية لا تعرف حقيقة الجهد والمال المبذولين فى زراعة الصحراء، وقد تتجاهل أو تسقط عنها سهواً خطورة هذه الإزالات على الأمن المجتمعى، بسبب الاحتقان الناتج عن ضياع الماضى والحاضر، وفقدان الأمل فى المستقبل، خاصة لمن التزموا بالزراعة خارج خطة الدولة حتى 2017، ومن تم توقيع أراضى الـ1.5 مليون فدان فوق زراعاتهم التى فاقت ستة أعوام، كما زارتهم لجان «هيئة التعمير» ودفعوا رسوم بدء إجراءات التقنين.
تقنين أوضاع هؤلاء يصبح نفعاً متعدداً، إذ يحمى الأموال المستثمرة من دمار الإزالة، ويضخ لموازنة الدولة أموال التقنين، ويرفع مؤشر الرضا على الرئيس والحكومة.
هؤلاء الأولى باهتمام الدولة، وذلك بتقنين أوضاعهم، سواء فرادى أو مجموعات بملكيات تتراوح بين 100 فدان للفرد، وألف للمجموعات فى شركات صغيرة، أو مساحات كبيرة للجمعيات الأهلية الزراعية الإنتاجية، لمنع تفتيت الحيازات، وربطها بمنظومة إرشادية رسمية، تضمن حفر الآبار بمواصفات علمية لسحب مقننات آمنة من الخزان الجوفى، وتركيب محصولى يساعد على تنمية مستدامة، ويصب فى صالح سد الفجوة الغذائية.
مؤكد أن من شحذ همته، واتجه صوب المعركة طوعاً، قد أعد العدة، وحسب الحساب للعمل الجاد، لذا فهو البديل عن خوض تجارب غير مضمونة، حيث لم يسبق أن نجحت تجربة لتوزيع الأراضى الصحراوية على شباب فرادى، كون هذه الفئة ربما يتطلع أبناؤها إلى امتلاك الأرض بهدف الهروب من البطالة فقط، ثم التخطيط لبيع حصصهم لصيادى الفرص وسماسرة التسقيع.