دخلت الحرب المعلنة بين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب والإعلام مرحلة «تكسير العظام»، ولا يبدو فى الأفق المنظور أن ثمة احتمالات لإصلاح هذا الوضع الذى أخذ أبعاداً جديدة لم تعرفها السياسة الأمريكية من قبل.
سيمكننا أن نقرأ تقييم ترامب لعلاقته بالإعلام، وأن نستشف خطته للتعاطى معه على النحو التالى: «الإعلام الليبرالى يكرهنى.. يضعنى على لوحة التنشين، لأنه يعكس مصالح أعدائى فى المؤسسات التقليدية، ويهيمن عليه الديمقراطيون. لقد حرف هذا الإعلام اتجاهات الجمهور نحوى، وزوّر استطلاعات رأى أضرت بحظوظى التنافسية على منصب الرئيس. الإعلاميون الذين يناصبوننى العداء هم الأقل نزاهة، وهم أعداء الشعب. إنهم يتصيدون أخطائى، ويقدمون للجمهور معلومات مغلوطة. هدفهم زعزعة مكانتى وإسقاطى، ولن أسمح لهم بذلك. سأفضح ممارساتهم الخاطئة، وسأواصل معركتى ضدهم، خصوصاً أننى مُؤيَّد بشعبية كبيرة، والجمهور الذى انتخبنى يثق فى ما أفعل وأقول».
أما الإعلام الليبرالى، وتمثله المؤسسات الإعلامية الكبرى ذائعة الصيت وعظيمة التأثير، فيرى أن «ترامب صناعة الإعلام الردىء والوعى المسطح. هو رجل لا يدرى ماذا يفعل، ولا يدرك ماذا يقول. من العار أن يحتل هذا الرجل موقع رئيس الولايات المتحدة، فى أعقاب شخص مثل أوباما، الذى تلقى تعليماً جيداً، وأظهر ثقافة رفيعة، وأقام جسوراً من الفاعلية والتفاهم مع معظم الجسم الإعلامى. يجب أن نفضح عجز هذا الرجل وتهافته، وأن نسلط الضوء على أخطائه وزلات لسانه، وأن نفتش فى دفاتره القديمة لاصطياد ما يوضح للجمهور حقيقته. سنشن حملات السخرية ضده، وسنجعله شخصية كارتونية فكاهية.. سنفقده اعتباره، ومن ثم سيُطاح بعالمه، وسيسهل فضحه، تمهيداً لإسقاطه، أو إضعاف فرصه فى الفوز بولاية جديدة».
ما سبق ليس محض استنتاج أو تأويل لما يعتقد كاتب هذه السطور أنه تقييم طرفى المعركة (ترامب والإعلام) لأسبابها، وتشخيص كل منهما للآخر، وتبرير لمواقفه منه، ولكنه أيضاً إفادات وردت على ألسنة تتحدث باسم المعسكرين. ما سبق هو تلخيص لمواقف معلنة، وتصريحات تم ذكرها نصاً، سواء على لسان ترامب ومساعديه، أو على ألسنة عدد من كبار الصحفيين الأمريكيين والمحللين والناشطين.
فى الأسبوع الماضى، منع البيت الأبيض عدداً من مراسلى وسائل الإعلام الرئيسية من حضور الإيجاز الصحفى الذى يقدمه المتحدث باسمه «شون سبايسى»، فى سابقة هى الأولى من نوعها فى تاريخ الولايات المتحدة. من بين الوسائل التى تم منعها من تغطية هذا الإيجاز «سى إن إن»، و«بى بى سى»، و«نيويورك تايمز»، و«لوس إنجلوس تايمز»، و«بوليتيكو»، وغيرها.
وفى المقابل، فقد تم السماح لعدد آخر من الوسائل التى يمكن وصفها بأنها «موالية للجمهوريين»، أو كونها وسائل ذات اتجاه يمينى، بالحضور؛ ومنها «فوكس نيوز»، و«بلومبيرج»، وغيرها.
نفهم من ذلك أن ترامب لا يكره الإعلام عموماً، ولكنه يكره الوسائل التى تناصبه العداء، أو التى لا تصطف فى تأييده. إن ترامب يعشق الإعلام بكل تأكيد؛ ليس فقط لأنه كان أحد أهم الأسباب فى أن يعرفه الناس أولاً، وأن يفوز فى الانتخابات الرئاسية تالياً، بعدما وصلت أطروحاته الصادمة والجريئة للجمهور فى مختلف أنحاء البلاد، ولكن أيضاً لأنه «كائن إعلامى» بطبيعة الحال، وإلا ما كان شارك بالتمثيل فى أعمال فنية، وقدم برنامجاً لتليفزيون الواقع، وانتهز أى فرصة، طوال مسيرته كرجل أعمال فى قطاع العقار، لكى يظهر على الوسائط المختلفة، ويسجل حضوراً.
ترامب يعشق الإعلام، ولكنه يكره صورته الراهنة فيه، وهو يعرف أين تظهر صورته السلبية، ولذلك، فإنه يشن هجومه على الوسائل التى تكرس تلك الصورة، وليس على الإعلام كاملاً.
من بين التداعيات السلبية والصادمة لهذه الحرب المعلنة ما رشح من مواقف بعض وسائل الإعلام الكبرى والإعلاميين المعتبرين.
لقد تصرف بعض هؤلاء كما لو أن الإعلام قبيلة وليس صناعة، وراحوا ينددون ويسبون ويهددون، بل إن وسائل إعلام وصحفيين معروفين تعهدوا بمواصلة الهجمات ضد ترامب، وصولاً إلى إسقاطه.
بعض هؤلاء لوح بالاعتزال، أو تقليل الكتابة، أو التوقف عن تغطية أخبار ترامب تماماً، وهو أمر غريب حقاً، إذ يعكس تصوراً خاطئاً مفاده أنه بوسع وسيلة إعلام جماهيرية أن تحجب أخباراً معينة تقع ضمن نطاق اهتمام جمهورها، لأنها تخوض صراعاً ضد شخص أو جهة ما.
الحرب التى تشتعل الآن بين ترامب ووسائل إعلام جماهيرية رئيسية فى الولايات المتحدة يمكن وصفها بأنها حرب تقليدية، تعكس نزعات غير مدروسة، وتحركها مشاعر بدائية، وأنها لا تخدم الجمهور، ولا تخدم الحقيقة، ولا تخدم الديمقراطية، ولا تحترم صناعة الإعلام.
يريد ترامب أن يستخدم سلطاته وموقعه ونفوذه لكى يضعف أدوار تلك الوسائل، وفى طريقه لتحقيق هذا الهدف، فإنه يكاد يعيد تشكيل آليات التواصل الحكومى الأمريكى.
بسبب عدم ثقته فى الجسم الإعلامى التقليدى بات ترامب من أكثر القادة فى العالم استخداماً لوسائل التواصل الاجتماعى (السوشيال ميديا)، بل إنه سبق أن أعلن بوضوح أنه سيعتمد على «تويتر» فى توصيل أفكاره ورسائله إلى جمهوره.
لا يتوقف ترامب عن استخدام «تويتر» يوماً، لأنه لا يوجه له الأسئلة، ولا يُحَرّف أقواله، ولا يضعها فى سياق من التحليلات، ولا يورد لتصريحاته خلفيات، ولا يشرح عطبها وعوارها فى كثير من الأحيان.
يريد ترامب أن يتحدث ولا يعلق عليه أحد، ولا يناقشه أحد، ولا يفضح جهله أو خطأه أحد، كما سبق أن حدث حين اصطاد له صحفيون متمرسون أخطاء وتصريحات ومواقف خاطئة وفضائح وزلات لسان. منذ إنشاء تلك الدولة لعبت وسائل الإعلام الجماهيرية أدواراً رئيسية فى مسيرتها، وقد حافظت على وضعها كسلطة رابعة راسخة بكل تأكيد، وعندما خاضت الحروب سابقاً مع فرد، أو مسئول، أو كيان، أو حزب، فإنها لم تخسر أبداً.
نحن جميعاً نذكر الحروب الكبرى التى خاضتها وسائل الإعلام الرئيسية فى هذا البلد، خصوصاً تلك المعركة الشهيرة مع الرئيس نيكسون، وقد كانت النتيجة إجباره على الاستقالة، كما نذكر أيضاً وقائع المعركة ضد المجمع الصناعى/العسكرى، فى أجواء حرب فيتنام، وقد انتصرت الصحافة أيضاً، وهو الأمر ذاته الذى حدث لاحقاً فى تغطية الأوضاع فى العراق، غداة الغزو الأمريكى، وانكشاف خدعة «أسلحة الدمار الشامل».
هناك تاريخ من الانتصارات التى حققتها وسائل الإعلام الأمريكية ضد أشخاص وجماعات وكيانات سياسية، وهذا التاريخ يخبرنا أن تلك الوسائل تملك تأثيراً ونفوذاً كبيراً، وأنها حققت الانتصار فى كل مرة، لكنه يخبرنا أيضاً أن ذلك لم يتحقق عبر الانخراط فى حروب بدائية، تحركها المشاعر السلبية، وتصنعها أساليب الدعاية السوداء.
ليس أمام ترامب سوى أن يضبط خطابه، وأن يحسن آليات ظهوره الإعلامى، وأن يتدرب طويلاً، لكى يقيم علاقة جيدة أو إيجابية مع الجسم الإعلامى التقليدى فى بلاده، وليس أمام وسائل الإعلام الكبرى سوى أن تلتزم بأدلتها التحريرية، وميراثها المهنى، وتقاليدها المستقرة، بعيداً عن خوض الحروب العبثية، التى سيخسرها الجانبان، ومعهما الجمهور والحقيقة وميراث الصناعة المعتبر.