شعار أقدم صروح الطب فى مصر: الداخل مفقود والخارج مولود
«كريمة» فى انتظار شقيقتها على باب المستشفى
مشهد فوضوى بامتياز، يبدأ من لحظة الدخول، حيث لا إرشادات واضحة على الجدران الخارجية توضح طبيعة الأبواب أو إلى أين يمكن أن تقود، الأغلبية تدخل عبر الأبواب الرئيسية التى تجمع بين الكلية والمستشفى، مداخل للسيارات والبشر معاً، يقود أحدها إلى العيادات الخارجية التى تقود بدورها إلى المستشفى بالداخل، ويقود الآخر إلى عالم واسع، حيث عشرات المبانى الخاصة بكلية الطب البشرى ومستشفى قصر العينى، مشهد يحتاج إلى خبير كى يدرك خريطته، فضلاً عما يثيره فى نفوس أكثر المرضى من قلق «لسه همشى كل ده؟».
لعل هذا ما دفع كريمة إلى الاستئذان فى «ترولى» وقفت به أمام البوابة الرئيسية التى تحمل لافتة «مستشفيات جامعة القاهرة» ممسكة بالهاتف المحمول، حيث واصلت الحديث مع قائد التاكسى الذى يقل شقيقتها ووالدتها إلى المستشفى، حيث ستقوم عقب وصولهم بنقل شقيقتها إلى الداخل بنفسها «رايحة خالص ومش هتقدر تدخل لحد جوه على رجليها» الكثير من المحايلات بذلتها الشابة من أجل الحصول على الترولى «كانوا عاوزينها تدخل لحد جوه وبعدين يحطوها على الترولى.. طاب إزاى قالولى هنديكى كرسى متحرك، قولتلهم هتقع منى يا ناس».
فى العيادات الخارجية، لا تبدو الوجوه مستبشرة، هؤلاء الذين يأتون وهم يعلمون أنهم سيخرجون فى نفس اليوم، لا تبدو وجوههم مسرورة بالمرة، طوابير من أجل قطع التذاكر، تتبعها طوابير من أجل الدخول إلى الكشف، الذى يتضمن فى بعض الأحيان مروراً على عدد آخر من الغرف، كالأشعة والتحاليل، هنا يتحول الأمر إلى مأساة حقيقية.
فى قسم الأشعة دخلت ابتسام مسرعة لتسأل ذلك الرجل القابع على باب الحجوزات، ناولته الورقة لتعرف إلى أى الغرف ستذهب، فأخبرها سريعاً أن أشعتها ستتطلب صبغة والصبغة غير موجودة «هتضطرى تروحى تشتريها من بره، اختصرى الوقت وروحى هاتيها وتعالى أكتب اسمك»، فى ذات الوقت تظهر ممرضة تطمئن شابة أنها لن تنتظر طويلاً كالموجودين «دقائق وهتبقى فى الأوتوبيس مروحة بيتك» مشهد لم يعجب محمد، الشاب العشرينى الذى كان ينتظر أشعة رنين مغناطيسى، صحيح أن الشابة صاحبة «الواسطة» لن تجرى ذات النوع من الأشعة التى سيجريها هو، إلا أن غضباً تفجر داخله جعله يوجه حديثه لوالدته بضيق شديد «إحنا بقالنا كتير قوى يا أمى شوفى قدامنا قد إيه معدتش قادر أقعد من الوجع، ضهرى تعبنى من القعدة».
كلمات عجز عن توجيهها سيد عبدالواحد، المسن الجالس على كرسى متحرك أمام غرفة الأشعة منذ ساعات، موقعه فى مواجهة تيار الهواء البارد جعله يرتجف، فراح يرفع ياقة جلبابه ليغطى بها رأسه محتمياً من البرد، مردداً فى سره «يا مسهل».. فى المستشفى العريق، لا مكان للمشهد الشهير لملائكة الرحمة، بملابسهم البيضاء المتكاملة بداية من أغطية الرأس وانتهاء بالأحذية، لا شىء أبيض، حتى «الروب» الأبيض تحول لدى الكثيرين -إن وجد- إلى اللون السمنى أو الترابى، مع ظهور نادر للممرضين الرجال. بعيداً عن العيادات الخارجية، حيث الوجوه المرهقة، والجلسات اليائسة، والأطفال الباكية، يبدأ دخول مبنى قصر العينى من الداخل، على الباب كانت سميرة تبحث كالملسوعة عن «مقعد متحرك» لشقيقتها التى تجرى جراحة بقسم الرمد «بيجيبوا الكراسى المتحركة منين؟» طرحت السؤال على كل من قابلته لكن أحداً لم يساعدها، ففى القسم المحجوزة به شقيقتها لا إجابات، وكذلك فى الردهة الطويلة، لم يبد أن أحداً يحمل إجابة، حتى عامل النظافة الذى أجابها بكثير من الملل، روحى عند الجراحة اسألى، دون أن يكمل إجابته عن موقع الجراحة. «لو شفت زمايلك فى الاستقبال بينضربوا من البلطجية هاتعمل إيه؟» سؤال طرحه «كوميكس مرسوم يطرح حواراً تخيلياً بين طبيب استقبال وزميله، فيأتى الرد «ودى محتاجة سؤال هاضرب البلطجية وأحوش عن زمايلى ده أنا أبوالجدعنة» لكن الرد يأتى: مؤكد غشيم، دول بلطجية هايضربوك انت واللى معاك ومدير المستشفى، انت تقلع البالطو وتنزل ضرب فى زمايلك مع البلطجية» هكذا أتت النصيحة عقب عدد غير قليل من حالات التعدى على الأطباء فى مستشفيات متفرقة من أنحاء الجمهورية، العديد من الإجراءات اتخذتها نقابة الأطباء فى محاولة للحد من الحدث المتكرر، دون إيجاد حلول حقيقية لأسبابه، التى تبدو واضحة للغاية من خلال زيارة خاطفة إلى أقسام الاستقبال، وعلى رأسها ذلك الكائن بمستشفى قصر العينى القديم.
«المكان مراقب بالكاميرات» تستقبلك الجملة فى قسم الاستقبال، لكنها تفقد معناها سريعاً حين يخفض الرائى نظره إلى تلك السيدة النائمة أسفل اللافتة فى حالة من الإعياء الشديد، لو كانت الكاميرات تعمل لكان القائمون على المراقبة هموا بتوفير «ترولى» يحملها خلال فترة علاجها على الأقل، السيدة ذات الرداء الأحمر التى نامت وحدها على مقعد الانتظار اليتيم فى الاستقبال لم تكن فى كامل وعيها لتحكى قصتها، لكن عشرات غيرها كان لديهم ما يقولونه بالتأكيد.
«انت مودينى فين؟» هتف بها محمود سعيد لشقيقه أحمد الذى هم بجر «الترولى» حيث لا ممرضين يفعلون، فقط ذوو المرضى وأصدقاؤهم هم من ينقلون المريض عبر ردهات المستشفى «هاوديك عند أوضة الدكتور عشان يبص عليك بدل ما انت ملقح هنا فى الاستقبال محدش راضى يجيلك» هتف بها أحمد دافعاً شقيقه الذى بدأ فى مطالعة التقرير الطبى الذى تم تحويله بحسبه إلى قصر العينى حيث الكثير من التيه والفوضى.
حالة من غياب الانضباط لم تطل فقط تلك الأقسام التى يقوى مرضاها على الوقوف على أقدامهم، لكنها وصلت إلى تلك التى تضم غرفاً تحمل كلمات «خطرة»، فى قسم الاستقبال، صورة بدت مرعبة أمام غرفة طوارئ الباطنة حيث الحالات فائقة الخطورة، رجل مسن على «الترولى» بدا منهكاً للغاية، تبرع أبناؤه بتحويل أيديهم إلى مسند لرأس والدهم، صرخ أحدهم فى الممرض الذى ظهر أخيراً «هو الدكتور مش قال يتحجز، ماتطلعوه بقى» فهتف الممرض بهدوء شديد «بنخلص ورقه»، هنا فقد الشباب أعصابهم «يعنى الورق أهم من الحالة التعبانة» سؤال لم يلق إجابة تماماً كذلك السؤال الذى طرحته آمنة عبدالسميع «انتو معندكوش عيال حرام عليكم» السيدة التى جف لعابها منذ ساعات الصبح، سقطت ابنتها الكبرى فجأة بدون مقدمات فى منزلهم، نصحها الجميع فى قريتها بالبدرشين أن تتوجه مباشرة للقصر العينى، تم إبقاء صغيرتها فى غرفة «الحالات فائقة الخطورة» سألها بعض المنتظرين عن سبب المجىء لكنها كانت كالتائهين لا تدرى ما تقول أو تفعل، تسأل من وقت لآخر عن صغيرتها إذا ما كانت قد أفاقت أم لا.
مشهد زاد من فزع الطفل أحمد سيد، الجالس فوق كرسى متحرك لا يعلم هو، أو أهله، ما ألم به، قبل أسبوع فقط لم يكن يشعر بأى شىء، فى منزلهم بمنطقة القناطر كان يلهو ويلعب قبل أن تقرر عائلته إجراء عملية «اللوز» له، فحوصات عديدة بمستشفى بنها الجامعى، دفعت الطبيب لوصف مجموعة من الأدوية للصغير كنوع من التجهيز للعملية، من بينها «حقنة» لم تكد تخترق جسده حتى انهار «الواد من ساعة ما خد الحقنة وجسمه اتنفخ، وعمال يصرخ، إيديه ورجليه وارمين على الآخر، رجعنا بيه للدكتور كتبهاله تانى، خدها برضو الحالة ساءت» لم تفهم عائلة أحمد طبيعة الحالة، حولهم الطبيب المعالج فى بنها إلى أبوالريش، ليخبروهم فى مستشفى الأطفال أن صغيرهم عمره أكبر من تلك التى يتولى المستشفى عنايتها «روحوا القصر العينى» تحويل جديد حظوا به لتبدأ رحلة العذاب «كل شوية يطلبوا حاجة شكل، وروحوا وتعالوا والواد حالته مش مستحملة، مرة يطلبوا شهادة ميلاده، ومرة يطلبوا الروشتات، جبنا كل حاجة وبرضه كل دكتور بكلمة شكل ومش فاهمين ماله» تحدثت والدته بينما واصل أحمد البكاء «أنا تعبت والله وعاوز أروح.. مانروح عيادة خاصة بلاش هنا والنبى»، أسبوع من العذاب المتواصل حظى به أحمد الذى لم ينل علاجاً حتى لحظة كتابة هذه السطور، ختمت والدته حديثها باستياء «المفروض الدكاترة والممرضين دول يبقوا ملايكة رحمة، يرحمونا ويساعدونا مش يبهدلونا ويمشورونا، تعبنا والعيل زهق أشاعات وتحاليل وشكشكة ويا ريته بيتعالج».
حكايات بلا حصر كان أقساها تلك التى وجد محمد زكى على نفسه جزءاً منها، اتصال ليلى مفاجئ للشاب الثلاثينى أفاده بأن خالته سقطت فجأة «دخلوها الساعة 11 بالليل وعقبال ما وصلتلها كانت 12، عملولها أشعة وقالوا جلطة فى المخ وفضلوا سايبينها من 11 بالليل لأربعة الصبح» لم تلق أمه الثانية أية إسعافات أولية، ساعات ثقيلة للغاية مرت عليهم وهم يفترشون الأرضيات، حيث لا مقاعد فى قسم الاستقبال البارد «ملقيناش حد نشتكيله، دورنا على نائب المدير الإدارى اللى المفروض يكون موجود بالليل داخل المستشفى ولكن العادى جداً إن حضرته ماكانش موجود، وكالعادة الأطباء اللى موجودين فى طوارئ الباطنة معندهمش أى إحساس بالمسئولية» موقف أصابه بهلع، ليس على خالته التى انتهى بها المطاف فاقدة للذاكرة، لكن على مستقبله وكل من يعرف «إيه الموقف لو حصلت لى حادثة على الطريق وجابونى القصر العينى؟ ناس معندهاش ريحة المسئولية وضماير أستك، وفشل ذريع وغياب لأدنى درجات الرحمة». خمس ساعات متواصلة كان من الممكن أن يتم خلالها اللحاق بالسيدة «رحنا لدكتور بره قال لو كانت اتلحقت بحقنة تذوب الجلطة كنا استريحنا من المضاعفات، محدش قدم لنا كوباية ميه حتى، ولما لقيتها بتترعش من البرد، رحت أجيب بطانية قالولى بتتأجر بخمسة جنيه، دفعت وجبت البطانية عشان أغطيها» العذر الوحيد الذى حمله إليه الأطباء أنها بحاجة إلى عناية مركزة، وأن المكان ليس به أسرة، مرور سريع من الشاب على مستشفيات إمبابة، وأم المصريين، والدمرداش انتهت إلى عدم وجود أسرة فارغة أيضاً «اتصلت بالنجدة سبع مرات عشان يساعدونى، لقيت أمين شرطة جايلى جوا المستشفى بيقولى مانقدرش نعملك حاجة الدكاترة هم اللى يقدروا يقولوا إيه اللى المفروض يحصل مش إحنا».
17 عاماً بين تلك التجربة المريرة وأخرى ليست كذلك مر بها الشاب فى المستشفى يقول «من 17 سنة أختى كانت عاملة عملية قلب مفتوح بس الدنيا كانت أنضف والناس كانوا أحسن من كده بمراحل.. مش من كرم حد أتعالج، ولا فضل منهم إنى آخد أبسط حقوقى فى إسعافات أولية.. اللى حصل جريمة ولحد دلوقتى مش عارف أروح أكلم مين، حتى الخط الساخن لوزارة الصحة لما طلبت منهم سرير قالولى اتصل بينا كل تلات ساعات نقول فيه مكان فاضى ولا لأ.. هو فيه مريضة جلطة هاتستنى كل ده!». «يالا بسرعة المدير جاى» هكذا يظهر أفراد الأمن فجأة ليأمروا الموجودين بالاختفاء «ماينفعش يشوفوكوا فى الطرقة» يحاول البعض الاعتراض إلا أن التهديد يأتى صريحاً «لو ماسكتش هانخرجك بره خالص» حاول البعض أن يستفسر عن سر حالة الطوارئ فأجابوه «أهم حاجة الطرقة تبقى فاضية». وسط الزحام لم تدر سعاد ما تفعله بالترولى الذى يحمل شقيقتها تهانى «عندها صديد حولين القلب، وفشل كلوى، محتاجة عملية فى القلب، بتوع القلب يقولوا روحوا الباطنة يظبطوا حالتها عشان تستحمل العملية، وبتوع الباطنة يقولولنا عادى تعملها معندهاش مشاكل» أقسام يلقى كل منها المسئولية على الآخر، والنتيجة أن تهانى إمام ظلت على الترولى تعانى من صديد قلبها لستة أيام، تقول شقيقتها: «أدينا مستنيين الباطنة والقلب والصدر يتفقوا عشان نعمل لها العملية خايفة عليها قوى» تهانى، ربة المنزل التى ترعى ثلاثة أطفال نصحها الأطباء فى قريتها بالبحيرة بضرورة إجراء العملية سريعاً فى قصر العينى، إلا أن أسرتها التى تعجز عن السفر بالحالة الصعبة يومياً من وإلى القصر لا يزالون فى «الطرقة» الخاصة بالاستقبال ينتظرون نظرة عطف من الأطباء. «الكاميرات غير مُفعلة» قالها نبيل أبوالعلا، المدير الإدارى المسئول عن قسم الاستقبال فى قصر العينى القديم، من مكتبه الحديث بالاستقبال «الجديد» حيث الجدران مطلية بلون زيتونى ناصع، والورود تحيط مكتبه من كل مكان فى «دور» يبدو وكأنه من خارج قصر العينى، حيث الكثير من العناية والحداثة والجمال.