فى الأصل نشأت فكرة عقد مؤتمر بالعاصمة الكازاخستانية أستانا، كترتيب لما بعد حلب، والمقصود ما بعد هزيمة المجموعات المسلحة التى كانت تقاتل داخل مدينة حلب وفى محيطها، والسماح بخروج هذه المجموعات بعائلاتهم إلى إدلب، برعاية الأطراف التى كانت قبلاً قادرة على تمرير الفظائع المرتكبة بحق المدينة من الداخل والخارج. سبب آخر تمثل فى استثمار فسحة الوقت الذى كانت الولايات المتحدة تخوض فيه معركتها الرئاسية، وهذه الأخيرة دفعت الروس إلى الإمساك بعجلة القيادة لحين أن تفرغ من شأنها الداخلى، بشرط الجلوس مع المجموعات المسلحة على مائدة واحدة، وقبلت موسكو الشرط واستحدثت محطة «الهدنة» ووقف النار الهلامى، كى يصير عنواناً عاماً يمكن نقل الأخبار والترتيبات تحت السعى لتنفيذه.
هذه بداية، ومن حينها ومياه كثيرة تجرى فى النهر من دون توقف، فالساحة السورية بتعقيداتها لم تكن يوماً يصلح لها ما يمكن تسميته بملء الوقت، وأستانا التى وُلدت هكذا لم تكن لتقف عنده، أو هو ما راهنت الأطراف كافة على قدرة كل منهم، اعتصار المشهد لآخر نقطة يمكن الاستفادة منها، حتى يفرغ الأمريكى ويصل مرة أخرى ليجابه ويدير ما يمكن أن يكون قد استجدّ على الأرض. طهران التى وجدت نفسها خارج رعاة الهدنة «الروسية- التركية»، هدمتها بالنار فى وادى بردى والغوطة، بميليشياتها المعلومة للأخيرين وبصورة حرصت على أن تبدو خلالها صاحبة قرار وقدرة مستقلة عن النظام السورى، كى تصل الرسالة للجميع بأن النيران إيرانية وهى قادرة على إرباك وإيذاء الحلفاء قبل الأعداء. وفشلت روسيا مؤقتاً فى تقويض المساحة الإيرانية، رغم أنها كانت من صلب مهام أستانة، وتم تعديل أوضاعها بدخولها راعياً رسمياً فى جولتها الثالثة منذ أيام.
تركيا استثمرت الفسحة الزمنية عبر الميليشيات التى تقاتل باسمها فى محيط مدينة «الباب»، حيث وجدت أن الهدف الأهم تكتيكياً لعملية «درع الفرات» ليس السيطرة على «الباب»، إنما ضمان الدفع بالقدر الأكبر من القوات العسكرية النظامية، وهو ما استطاعت الوصول إلى حد معقول فيه تحت عنوان تحرير غرب الفرات من داعش، لكنها أصيبت بخيبة عميقة، فحينما أعلنت أن المعركة المقبلة ستكون «منبج»، وضعت أمريكا قواتها التى ترفع الشارات والأعلام للمرة الأولى بصورة معلنة بالمدينة. على الجانب الكردى المقابل كشف «سيبان حمو» قائد ميليشيا «وحدات الحماية الكردية»، عن موعد تقريبى لمعركة الرقة حدده ببداية أبريل المقبل، وهذا الإعلان شبه الرسمى عندما يخرج من كردى كمتحدث أول عن الهجوم الذى يشغل الجميع له دلالته، فوحدات الحماية الكردية التى تقود ما يسمى بـ«قوات سوريا الديمقراطية» لا تسجل نقطة غالية فى الهدف التركى وحسب، إنما يعبر الإعلان عن المعادلات المستقبلية للشمال السورى برمته والتى هى فى القلب منه. فبأى صورة من صور تسويات الأزمة السورية ورغم وطأة كافة أوراق الضغط التركية، لن يعود الشمال السورى كما كان لا جغرافياً ولا ديموغرافياً.
قوات مشاة البحرية الأمريكية التى نصبت أطقم بطاريات «هاوتزر 155 مم» ورفعت أعداد قواتها لتصل إلى ما يقارب «1000 عسكرى»، هى بذلك تدخل هذا الشمال فى معادلة جديدة لا علاقة لها بما مضى. فالقوات العسكرية ذهبت لتبقى ولتضع الميزان الأمريكى على صدر المائدة، هذا الميزان سيمنع أى تغول تركى بحق المشروع الكردى، وسيلجم الوجود الإيرانى عن هذا الشمال ويسترد عصا القيادة من موسكو فى رسم خطوط السير. لكن الميزان الأمريكى ليس بهذا القدر من الوضوح والاتزان الذى يحاول أن يبدو عليه، لا سيما وهو أمام أسئلة عميقة لم يصغ إجابتها بعد، أهمها وأشملها عمن سيذهب معها لتحرير الرقة ومن سيُسمح له بالبقاء هناك فيما بعد ذلك؟
هذا السؤال الآنى يحمل ظلالاً مستقبلية، وافتراضاً يفصح عن خطة إدارة ترامب بشأن المعضلة السورية التى لم تتكامل بعد. فأم المعارك تلك تحمل فى طياتها أغواراً لم يقترب منها أحد حتى الآن، مثل أن هزيمة «داعش» الافتراضية تصب مباشرة فى صالح طهران وميليشياتها الشيعية، حتى قبل أن تدخل فى رصيد النظام الذى يقف خلف هؤلاء، وهى معضلة تكشف أولى طبقات تلك الأغوار التى فيها ما هو أبعد من ذلك، فالمراهنة الأمريكية المبكرة على المكون الكردى فى جزء منه كان يستهدف تصحيحاً معقولاً غير معلن للكفة السنية، ومسار السماح بعملية «درع الفرات» التركية له نصيب من هذا التصحيح. لكن الواقع أن تناقضهما الوجودى يكشف بجلاء أن الكفة السنية اختلالاتها أوسع كثيراً من تماسكها. وفى طبقة تالية مثل تقييم مجمل التدخل العسكرى الروسى لصالح النظام وتشكله رصيداً فى اتجاه لم يكن محسوباً بدقة، فهو لم ينجح فى صبغ النظام بصبغة وطنية تزحزحه عن التموضع المذهبى، بل ربما غاصت أقدام النظام فيه بأكثر مما كان عليه، فإيران وحزب الله لهما أعين مدربة لا تخفى عليهما مثل تلك الاستهدافات، هما فقط أحنوا رؤوسهم للعاصفة الروسية فى القيادة وخطط العمل العسكرى، واثقون فى قدراتهم بحصد المكاسب فى اللحظة المناسبة. طهران لديها خبرة مماثلة نجحت فى اكتسابها بالعراق، وكلاهما لم يكن ليرضى ولا ليسمح بإفلات النظام السورى من أنيابهما ومخالبهما، وفى هذا قد تصل الأغوار نفسها أمام انكشاف منحرف لا يرغب أحد فيه، فهو يدفع تجاه الطبقات السحيقة، عندما تقف الولايات المتحدة فى كفة المكون السنى وروسيا فى المقابل لصالح كفة المكون الشيعى. رغم أن كلاهما لم يخطط أو يصل إلى هنا بهذا الهدف، لكنه لن يشكل مفاجأة تامة، فهو مما يتم تداوله اليوم لكليهما ولدى الغير فيما قبل الرقة.